مرتضى أو العبد المتسلط/ بكر صدقي
أعدت قراءة رائعة الروائي التركي الراحل أورهان كمال “مرتضى”، بعد عقود من قراءتي الأولى لها، فأدهشتني كما في قراءتي الأولى، ببراعة رسم الكاتب لشخصيته الرئيسية “مرتضى” في صورة كاريكاتيرية تذكر، شكلياً، بشخصية دون كيشوت، وتختلف عنها في ملامح كثيرة. تكمن أهمية هذه الشخصية النمطية، قبل كل شيء، في أنها تتيح تحليلاً “مخبرياً” لعلاقات السلطة والخضوع، وهذا ما يمنح استعادتها مشروعية عابرة للعصور والأزمنة.
مرتضى حارس ليلي في أحد أحياء البؤس في المدينة (أي مدينة وكل مدينة)، يسهر الليل حتى الصباح وهو يراقب الأزقة الموحلة والبيوت المتهالكة المصطفة على جانبيها، في حين ينام زملاؤه في أحياء أخرى ملء جفونهم. وإذا رأى مرتضى الضوء مشتعلاً في نوافذ أحد البيوت قرع الباب ليسأل ساكنيه عن سبب سهرهم، فيعدد لهم مضار السهر وفوائد النوم المبكر، ثم يأمرهم بإطفاء الضوء والاستغراق في النوم.
وإذا رأى قطة تحوم حول حاوية قمامة في الحي المجاور الذي يقطنه أثرياء، طاردها فمنعها من قلب الحاوية وتوسيخ مداخل الأبنية ذات الطوابق. أما إذا رأى رجلاً بمظهر بائس يمشي في أحد شوارع حي الأثرياء المذكور، فهو يوقفه ويستجوبه عما يفعل هناك في الليل، وقد يقتاده إلى المخفر بشبهة النية في السرقة!
يميز مرتضى، إذن، بين نوعين من المواطنين، ينتمي الأول إلى أحياء البؤس والثاني إلى أحياء الثراء، فيكون الأول بحاجة إلى ضبط وتوجيه وقد يكون موضع شبهة، في حين يستحق الثاني الاحترام والاهتمام ويكون فوق الشبهات. وإذا كان على سكان الحي الأول أن يناموا باكراً ويستيقظوا باكراً للالتحاق بأعمالهم، فمن حق سكان الحي الثاني أن يسهروا حتى الصباح ويسمعوا الموسيقا أو يفعلوا ما يشاؤون. فقد وصلوا إلى ما وصلوا إليه بفضل عملهم ونشاطهم كما يرى مرتضى.
وإذا تعرض مرتضى إلى تشكيك بصلاحياته أو سئل عن مصدر سلطته المطلقة على السكان، فهو يجيب بيقين تام: “إذا كانت السلطة للحكومة في أنقرة، ولله في السماء، فهي لي هنا!” متجاوزاً حتى درجات التراتبية في السلطة الأرضية.
يجمع مرتضى إلى عبوديته المطلقة للسلطة، أوهاماً عن دوره فيها، فيبدو كما لو كان يتسلط على الناس لحسابه الخاص في الوقت الذي يفعل ذلك “في خدمة الوطن” وليس فقط في خدمة الدولة بشبكتها البيروقراطية. وعلى رغم احترامه التام للتراتبية في جهاز الشرطة، فهو يصدر عن واجب وطني، قبل أي اعتبار لتنفيذ أوامر أو تعليمات لمن يعلونه في درجات السلطة ومراتبها، ولا يساوره أدنى شك في صواب ما يفعله، وكأنه ليس شخصاً من لحم ودم، بل مجرد أداة من أدوات تجلي إرادة كلية وقيم مطلقة.
ولكن من هو مرتضى؟
هو أحد المهاجرين من منطقة البلقان في إطار عملية المبادلة التي تمت بين أتراك تلك المنطقة ويونانيي تركيا، في مطلع الحقبة الجمهورية، بعدما تعرض الأخيرون لعملية تهجير ممنهجة في إزمير بصورة خاصة إبان حرب الاستقلال. أي أنه أحد ضحايا الهندسة السكانية التي أجرتها السلطة الجمهورية الجديدة للوصول إلى “مجتمع متجانس”.
ولكن، بخلاف المهاجرين الآخرين من أمثاله الذين زعموا أنهم كانوا يملكون ممتلكات كبيرة في موطنهم الأصلي، بغية الحصول على تعويضات، أبى مرتضى إلا أن يكون صادقاً مع لجنة التعويضات التي كلفتها الدولة بهذه المهمة، فقال إنه لم يكن يملك أي شيء في موطنه الأصلي. وعلى رغم نصائح اللجنة لكي يغير أقواله، لم يفعل مرتضى فعاش مع أسرته حياة فقر ومعاناة. فهو منذور، كما يرى نفسه، لمهمات كبيرة لا يصح معها أن يكذب على وطنه الجديد أو يخادعه طمعاً في مكاسب لا يستحقها.
كانت النتيجة أنهم أشفقوا عليه فأعطوه وظيفة حارس ليلي لا يكفيه راتبه لتأمين متطلبات حياة أسرته التي تكبر باطراد بالمواليد الجدد. وبما أنه حرم من التعليم فلم يكن له أن يصبح ضابطاً في الجيش ليريق دمه استشهاداً في سبيل الوطن، على مثال خاله الشهيد “الذي كرّ نحو مدفعية العدو بسيفه!”، فاكتفى بـ”منصب” الحارس الليلي، فالواجب هو الواجب سواء على جبهات القتال أو في أزقة الحي الذي يقوم بحراسته. وقد أراد أن يجد تعويضاً عما فاته في أبنائه، فراح ينتظر الابن الذكر وزوجته تلد له الإناث تباعاً. وإذ رزق بذكر أخيراً، فقد خيب هذا الوريث أحلام أبيه فلم يكن جديراً بإرث الخال الشهيد.
ترى ألا يواجه مرتضى المتسلط على السكان أي مقاومة من هؤلاء؟
بلى، فالمتضررون من أذاه كثيرون، بما في ذلك زملاؤه من حراس الأحياء الأخرى الذين يشعرون بالحرج أمام تفانيه في العمل ونزاهته وإيمانه المطلق بصواب ما يفعله. وكثيراً ما يحدث أن يبلغ استياء السكان من تسلط مرتضى حداً يدفعهم إلى الاتفاق على تقديم شكوى جماعية إلى رئيس المخفر أو من هم أعلى منه أحياناً. لكن ما يحدث أن هؤلاء المستائين سرعان ما يتسللون، واحداً بعد آخر، من المجموعة بسبب خشيتهم من انفضاح أعمالهم غير المشروعة أو مسالكهم المشينة، فتفشل محاولاتهم التخلص من مرتضى. حتى حين تحافظ مجموعة منهم على إصرارها وتنجح في تقديم الشكوى، فمرتضى يكون قادراً على إقناع رئيس المخفر بلغوه الفارغ عن الوطن المقدس وواجب الاستشهاد في سبيله، مما يجعل رئيس المخفر عاجزاً عن الرد أمام قوة حجته!
ليس رئيس المخفر وحده من يذعن أمام “وطنية” مرتضى وبلاغته المكسّرة بسبب تركيته ذات اللكنة الأجنبية الواضحة، بل كذلك كثير ممن يخطب فيهم ويأمرهم من سكان الحي. يدخل مقهى مزدحماً بزبائنه، فلا يجد مقعداً للجلوس. فيأمر نادل المقهى بصوته الجهوري ونبرته السلطوية، فيأتيه هذا صاغراً بكرسي يقتعده. ثم يأمر أحد الزبائن بأن يقف باستعداد حين يتحدث إليه، فينقاد هذا كالمنوم مغناطيسياً ويقف أمام مرتضى باستعداد! فالموقف يوهم الرجل بأن وراء هذا الحارس الليلي سلطة كبيرة يستند إليها ويستمد منها قوته، لا بد أن يكون الأمر على هذا النحو!
فعلاقة السلطة والخضوع تقوم على آليات نفسية غير مرئية أساساً.
تمضي الرواية في مشاهد أقرب ما تكون إلى مشاهد مسرحية فكاهية، فتعرض وجوهاً مختلفة لعلاقة السلطة والخضوع، ومعالم من المجتمع غنية بتفاصيلها.
أترك للقارئ أن يسقط هذه الشخصية النمطية على علاقات السلطة والخضوع، كما على الرطانة الوطنية ودورها، مما يعرفه بصورة ملموسة في واقعه.
تلفزيون سوريا