سذاجة المغامرين في «سوريا الجميلة»/ عمار المأمون
يُتداول مصطلح المغامر الفيتيشي في التراث الكولونياليّ، وهو ذلك الذي يقتحم الأماكن «المجهولة» و«الخطرة» لـ «يصطاد» ما فيها من آثار وأغراض، مُسجلاً ملاحظاته ومشاعره وتفسيراته، ثم يعود إلى مساحاته الآمنة بوصفه مُستكشفاً وخبيراً، لتتحول حكاياته إلى حقائق تاريخيّة تَستبدلُ تلك المحلية و«الأصليّة»، ما يخلقُ متخيّلاً عن «الآخر المجهول» يتطابق مع تفسيرات المغامر ومرجعياته.
ويرى هذا الفضوليّ في الأرض الجديد مساحةً بِكراً، تُحيط بها الأكاذيب، وقد جاء هو لكشف الحقيقة. الأهم، أن ما فيها من أغراض هي أشبه بطلاسم سحريّة لا تظهر في الأخبار والحكايات الرسميّة، ما يأسر المغامر ويساعده على إنتاج «حقيقته»، سواء كانت لوحة أو نصاً أو صورة. في وصف هذه التقنيّة نقرأ للفنان يوجين فرومانتين، الذي يخبرنا عن زيارته لشمال أفريقيا في كتابه صيف في الصحارى: «يجب مراقبة هؤلاء الناس عن بعد، في الأماكن التي يظهرون فيها بصورة طبيعيّة». ونتيجة لهذا الخوف الممزوج بلذة الاكتشاف، قدَّمَ لنا التراث الاستعماري عدداً من الروائع، مثل لوحة «داخل الحريم» لثيودو شاسيرو، وغيرها من الأعمال المليئة بروح المغامرة والفانتازمات الكاذبة.
يدّعي «المغامر» أنه لا يمتلك موقف إيديولوجياً مُسبقاً، بل هو فقط متحذلق يريد أن ينقل لنا انطباعاته عمّا يدور هناك. هو الغريب في أرض غريبة، يسجّل ما يراه ويختبره، مولّداً حكايات تتحول إلى جزء من التأريخ/ البروباغاندا اللذان يدّعيان «الحياد»، فالمغامر يريد الاكتشاف فقط، وإشباع فضول «المشاهدين» حول حقيقة ما يحصل في تلك الأماكن الخطرة والغامضة.
هناك حقيقة يعطي المغامر الانطباع بأنه يمتلكها، كونه شهد المكان «بأمّ عينيه»، مكذّباً الجميع، ومتخفياً وراء عبارة «هذا ما اختبرته أنا»، هذه الصيغة البريئة تخفي وراءها الأفكار الكولونياليّة التي بدأت بمغامرين وفضوليين، وانتهت بالاستعمار، واستعراض البشر في أقفاص في أوروبا.
إطار المغامرة في سوريا
جزء من حكاية ما بعد الانتصار التي يروج لها النظام السوري يظهر في مفهوم «الحياة الطبيعيّة» وآليات إعادة الإعمار. فسوريا، من وجهة نظر النظام، قد «تعافت»، وأبوابها مفتوحة للجميع عدا «الأعداء». هذه الحكاية موجهة للـ«غرب»، لا السوريين. بالتالي، لفهم طبيعة المغامرة في سوريا وسذاجة مُتبنيها، لا بدّ من الإشارة إلى أن المُباح والمسموح في سوريا مسيّس، أي أن الحياة اليوميّة هي شكل من أشكال الطاعة، قد تبدو «طبيعية» للوهلة الأولى، لكنها محكومة بالرعب والخوف، ودخول المغامر ضمنها يعني اتفاقه مع شكل الطاعة «المُصطنع»، وتجاهل الخوف المحيط به والسياسات التي أنتجته.
يدّعي المغامرون دوماً أنهم لا يشاهدون الأخبار، وأن أهدافهم غير سياسيّة، في تجاهل تام لأن التصوير في سوريا ممنوع، إذ يحتّم المشي علناً وأنت تحمل كاميرا موافقات أو «سماحاً» من قبل «الجهات المختصة». والمتروك «لوحده» ليتجول إنما تُرك عمداً، لم يتسلل أو يخاطر بحياته أو يتنكر، بل تمت «الموافقة» على دخوله، وتركه لـ«يلعب» ببراءة في فضاءات الحياة اليوميّة الاصطناعيّة.
يظهر ضمن هذه الثنائيّة وجه المغامر الساذج الذي يمشي في شوارع دمشق وحلب على هواه، دون أي مضايقات. المثير للغيظ أن هذا «الشجاع» لا يقدم لنا روائع فنيّة أو أدبيّة، بل فيديوهات ترويجيّة، صالحة للإعلانات أو التصفح السريع، مواد دعائيّة تلبي احتياجات الباحثين عن المغامرات في حال كتبوا في محركات البحث عبارة «الذهاب إلى سوريا». وهنا يظهر الأثر الجدّي لهذه الفيديوهات، كونها تشكك بالأخبار والحكايات عن لا طبيعية الحياة في سوريا، ويفقد أولئك الذين لا يستطيعون العودة إلى سوريا مصداقيتهم ويتحولون إلى حالات استثنائيّة، أو «كذبة» أنتجها «متآمرون»، فها هي سوريا مفتوحة للسياح والفضوليين الذين يدخلون ويخرجون منها بكل أمان.
نتعرف من بين هؤلاء المغامرين «البيض» على جورد، الذي زار دمشق مؤخراً، وتجول في باب شرقي وكنيسة حنانيا، وقدم «لنا» معلومات عن تاريخ سوريا والحملات الصليبيّة، واستكشف مع مجموعة من «السياح» السيوف الدمشقيّة التي يعود عمرها لمئة عام. نراه كذلك يتحدث عن لطف الشعب السوري والطعام المجاني الذي يتذوقه في البزوريّة، لكنه لا ينسى أن يشير إلى الأعلام المنتشرة في كل مكان، بل يتوقف لثوانٍ، ليخبرنا لاحقاً أن هناك معارك دارت في محيط دمشق، ويحيلنا إلى فيديو آخر إن كنا نريد أن نتعرف أكثر على ما يحصل.
جورد يدرك أنه يكذب على المُشاهد، ما يعني أنه يؤدّي. هو مُراقب، وهناك من يستمع له ويضبط ما يقوله مما قد يهدد ظهوره بصورته الطبيعيّة كـ «سائح»، ما يجعله كالسوريين الظاهرين في الفيديو، يؤدّون الحياة الطبيعيّة تجنباً للخطر. الأهم، أن هناك دوماً من يخبره جورد بتاريخ المكان، لا ندري إن كان الدليل السياحي المرافق له، أو الناس، لكن ما يتكرر دوماً أنه يدّعي تقديم جانب من سوريا لم يتوقع المشاهد أنه موجود.
يقول جورد إنه يتحرك بصورة حرة في المدينة القديمة في دمشق دون مرافقة، لكنه «نُصح» بعدم الخروج منها حفاظاً على سلامته. هو مدهوش دوماً، كأي غريب يكتشف مدينة لا يعرفها، والمثير للاهتمام، بل والغيظ، هو تجاهله التام للبعد السياسي لمغامرته هذه، وأثرها على «الحكاية السوريّة»، ولدور النظام في الترويج لنفسه وللحياة الطبيعيّة عبر حكايات هؤلاء المغامرين.
يتضح البعد السياسي والترويجي في «تدوينات» و«مغامرات» درو بينسكي، الذي ينسق مع النظام السوري بوضوح من أجل الدخول إلى سوريا، مدعوماً من منظمة أنقذوا مسيحيي الشرق الفرنسيّة والمحسوبة على اليمين الفرنسي المؤيد لبشار الأسد، والتي يزور أعضاؤها سوريا بصورة دوريّة. لكن، بالعودة إلى درو، نراه أسير سحر دمشق وحلب، يتصور مع الجيش اللطيف، ويتحادث مع الناس، ويطري على جهود إعادة الإعمار، لكنه يترك دوماً سؤالاً معلقاً في عقل المشاهد، من قَصَفَ السوق في حلب؟ من دمر المنازل؟ من يمتلك طائرات في السماء؟
هذه الأسئلة، البديهيّة بالنسبة للسوري المتابع، تتشوش لدى الآخرين الذين نقرأ «أجوبتهم» ضمن التعليقات على فيديوهات المغامرين. وبعيداً عن السوريين الذين ينتقدون هذه المغامرات، يرى البعض أن عدداً من مدن سوريا كانت خطرة، ولكن الأمان قد عاد الآن، وعلى الجميع زيارتها والاستمتاع بالكنافة وبوظة بكداش. السذاجة ذاتها نراها في تجربة البولنديّة إيفا زوبيك، التي ركّزت دوماً على أنها فقط سائحة تريد اكتشاف حلب ودمشق، ولا علاقة لها بالسياسة.
بروباغندا الانتصار
يبدو الخوض في مفاهيم المغامرة مبتذلاً أمام سذاجة هؤلاء «السيّاح»، خصوصاً أنهم يُبدون حسن نية مصطنعاً، ويتجاهلون تأثير هذه الفيديوهات والتدوينات على السياسات التي يتّبعها النظام السوري، فالترويج للسياحة والحياة الطبيعيّة وكل ما يتعلق بأن سوريا هي بلد الأمن والأمان جزء من ضمان مخطط إعادة الأعمار الوهمي؛ والتركيز على أن الحرب انتهت هو دعوة للمستثمرين من جهة، وإحياء السياحة نفسها من جهة أخرى. ولا نقصد «سياحة الخطر» المرتبطة بأماكن الحرب والموت، بل تلك التي يقوم بها الفضوليون والمغامرون، مثل زبيك التي بكت لأن حارس قصر العظم قدَّمَ لها كتاباً، وشالاً عليه العلم السوري.
إشكاليّة هذه المغامرات تكمن أيضاً في أنها بروباغندا لأحزاب اليمين المتطرف التي تدعم أولئك الفضوليين وتسهّل دخولهم، وذلك لتهديد سوريي الخارج، المنفيين واللاجئين، الذين تُستخدم هذه الحكايات ضدهم في محاولات ترحيلهم، ونفي «الخطر» الذي يتعرضون له، بحجة أن الحياة طبيعيّة، كما يفعل حزب البديل من أجل ألمانيا، الذي يتبنى سردية أن الحرب قد انتهت، ولا بدّ من عودة اللاجئين إلى بلادهم.
لعنة اكتشاف الذات
تحمل المغامرة حسّاً بالتحدي لأصحابها، كما نراه لدى البولنديّة والأميركي. كلاهما يحاول أن يرى بعينيه، أن يتلمّس و يختبر، خالقاً وهماً بالـ«حقيقة» لدى المتابع، فلا يمكن لشخص أن يكذب حتى على نفسه. يتصوّر المغامر أنه يقدم صورة مايكروسكوبيّة للبلاد، لكن حدود هذه الصورة جسده وما اختبره، ويترك الحكم للمشاهدين الذين يشككون بالأخبار، ولديهم متخيلات متناقضة عما يدور في سوريا. لكن الأمن والنظام العام اللذيَن يختبرهما المغامر، خصوصاً في مساحة كسوريا، مضبوط: هو نتاج الرعب والاتفاق بين الجميع على عدم الاحتجاج خوفاً من بطش النظام. وهنا تظهر ادعاءات المغامر ساذجة، فنعم، الحياة طبيعية بسبب الخوف، لا قناعة بالنظام القائم، أما الاكتشافات الذاتيّة التي يتبجح بها المغامر، فليست إلا جزءاً من عدم إدراكه، أو تجاهله، للعنف الذي تُنتَج عبره الحياة الطبيعيّة في سوريا.
لا بدَّ أيضاً من الإشارة إلى نبرة السخرية التي يصعب الفكاك منها حين الكتابة عن المغامرين ومحاولات تفنيد حججهم، فهم حقيقة «دخلوا» سوريا، وتنقلوا بين مساحاتها وخرجوا بحكاياتهم، والصِدام مع واحد منهم أو القائمين على رحلاتهم لا يفضي إلى شيء، كونهم خرجوا أحياء مُشبعين بالحلويات السوريّة دون أي أذى، ما يجعل حكاياتهم المصطنعة تتماشى مع بروباغندا النظام، وتترك الساخرين أو المغتاظين دون قدرة على إثبات وجهة نظرهم، لأن الرد ببساطة يكون «يمكنك تسوية وضعك مع النظام السوري والعودة إلى هناك، لم لا تفعل ذلك؟» أو «كيف يمكن لك أن تختلف عن أولئك الذين يتابعون حياتهم ويوزعون الملبّس والراحة على السيّاح؟»
خطورة الأسئلة المستفزّة السابقة تظهر لاحقاً في تعقيد إجراءات اللجوء، التي لا تقوم فقط على نص قانوني، بل تتضمن جهداً سرديّاً على الفرد أن يثبت عبره تعرّضه للخطر. بالتالي، هذه الحكايات التي تتسلل إلى الموظفين والقائمين على إجراءات اللجوء تولد تعقيدات إدارية، بل وتبطل مفهوم «الخطر» الذي ترك بسببه الناس سوريا، فالخطر لا يتجلى فقط بالعنف العسكري، بل هناك جانب آخر لا يدركه من يصدقون حكايات المغامرين، ونقصد هنا عنفاً خفيّاً يمارسه جهاز بشريّ مسؤول عن تجريم واعتقال وإخفاء الآلاف. لا يظهر هذا الجهاز في فيديوهات المغامرين، لكنه يبيح ظهورها ويضبط السكريبت الذي تمشي عليه.
موقع الجمهورية