سوريا الحائرة بين الفهد والأسد والنمر/ حسام جزماتي
كان ممدوح عدوان يفخر بصفة المتمرد التي التصقت باسمه منذ بدأ هذا المثقف السوري، متعدد الاشتغالات، مسيرته الكتابية ونشر مسرحيته الشعرية الأولى، ذات العنوان الدال «المخاض»، عام 1967. وفيها يستلهم، هو المولود في قرية قيرون بريف مصياف، بيئة مجاورة حفظت ذكرى متمرد شعبي هو بوعلي شاهين من قرية سيغاتا القريبة.
تقول الروايات المتداولة شفوياً إن شاهين كان فلاحاً بسيطاً مرابعاً لدى أحد الإقطاعيين، كمعظم سكان المنطقة، وإنه عجز عن تسديد حصة مالك الأرض في إحدى السنوات، بُعيد الاستقلال عام 1946، بسبب القحط، وإنه تشاجر مع «زلمة الآغا» الذي طالبه بها بفظاظة وبذاءة لم يستطع بوعلي احتمالهما فضرب هذا «الوقاف» الذي استعان بالدرك فاقتادوا الفلاح إلى المخفر حيث أهانوه وضربوه بشدة. ولما خرج حمل بارودته وبدأ بقتلهم، وعاش وحيداً في البراري حتى اشتهر بلقب «الفهد» وصار أيقونة محلية. ضغطت السلطات للقبض عليه بوسائل متعددة، منها احتجاز زوجته وطفله، إلى أن تمكنت من ذلك بفعل وشاية خاله، وأعدمته شنقاً عام 1949.
يقول عدوان إن ما أثار انتباهه هو استمرار الأغاني الفلكلورية التي تتغنى بشاهين حتى الستينات. ولهذه القصائد روايات متداخلة غير منضبطة بطبيعة الحال، شاع منها بيت يقول: «يا بوعلي يا شيهين يا الرابط ع الكروسي/ قتلت درك مصياف لسا درك طرطوسي». والحال أن طرطوس لن تتأخر عن تمجيد البطل الشعبي، ففي عام 1968، التالي لظهور مسرحية عدوان، سيصدر، عن وزارة الثقافة، ديوان «أغان على جدار جليدي»، وهو الأول لمحمد عمران، ابن قرية الملاجة التي ستشتهر به. وفيه سيكتب الشاعر قصيدة بعنوان «شاهين» في مقدمة وخمس لوحات، رافعاً المتمرد إلى مصاف «الأسطورة المحلية» كما قال نقاد، إلى جانب أوليس بطل الأوديسة وشهريار ملك ألف ليلة وليلة، كأسطورتين عالمية وعربية تشاركانه صفحات الديوان.
في العام نفسه سيصدر حيدر حيدر، ابن حصين البحر بريف طرطوس، كتابه الأول كذلك، «حكايا النورس المهاجر»، وهو مجموعة قصصية وصفتها ناشرتها وزارة الثقافة أيضاً، عند الإعلان عن ظهورها، أنها تحكي عن «الإنسان في كفاحه اليومي لتثبيت وجوده القومي». وفيها كتب حيدر قصة طويلة بعنوان «الفهد» تتناول حياة بوعلي شاهين، ستشتهر في ما بعد وتجد طريقها إلى التكريس والطباعة كرواية مستقلة.
كانت رسالة المؤلفين الثلاثة هي أن البطولة الفردية لا تجدي مع غياب الوعي بسبل النضال الصحيحة الكفيلة بتثوير الجماهير. وبالمقابل، انتمى المسرحي والشاعر والروائي إلى يسار البعث. وتحدروا، مثل بطلهم، من البيئة العلوية. غير أنهم، وسيصبحون من نجوم الثقافة السورية وألمع أسمائها في العقود اللاحقة، لم يُضمروا ميلاً طائفياً واعياً بقدر ما نطقوا بلسان جيل ناهض من الثائرين الذين وصلوا إلى السلطة بانقلابٍ قاده الحزب، في 8 آذار 1963، وتفردوا بها بتحرك يساري داخله في 23 شباط 1966، وهي المرحلة التي اتسمت بخلطة من الانحيازات الطبقية والأهلية والهوياتية إلى الفلاحين والمسحوقين والموثوقين، كانت طائفية النتيجة.
على كل حال، ستمتد يد دمشقية إلى القصة، هي لنبيل المالح الذي كان يبحث عن فيلمه الطويل الأول وعثر عليه في «الفهد». ليلتقي بذلك مع رغبة المؤسسة العامة للسينما، وهي جهة القطاع العام التي أنشأها البعث بعد أشهر من استيلائه على السلطة، وأناط بها إنتاج أفلام تواكب صعود البلاد في ظله وتدعم مسيرة بناء المجتمع العربي الاشتراكي المنشود. وكانت قصة بوعلي شاهين أكثر من مناسبة لاعتبارات عديدة. وبالفعل، كتب المالح سيناريو الفيلم ونظم عدوان أشعار أغانيه، وكان كل شيء على وشك الإقلاع عندما أتى الإيعاز بالتوقف قبل بدء التصوير بأسبوع!
يفضّل مثقفون أن يقولوا إن الأمر أتى من وزارة الداخلية لأن الفيلم «يشجع التمرد ويسيء إلى سلك الشرطة»، لكن صحيفة «الثورة» الرسمية تحفظ لنا سجالاً غريباً جرى في حزيران 1969، بدأه حيدر بمقالة بعنوان «من الذي منع فيلم الفهد ولماذا؟»، مشيراً إلى وزارة الثقافة التي سترسل، بعد أيام، رداً حاداً تقول فيه، «بصراحة»، إنها منعت إنتاج الفيلم لأسباب ثلاثة؛ أولها أنه يدور «حول أحد الخارجين عن القانون قاطع الطريق الذي كان يرتكب جرائمه دون أي هدف سوى السرقة والنهب بالعنف وقتل العديد من رجال الدرك الذين قاموا بواجبهم»، وثانيها أن «تصوير هذا الرجل كمناضل طبقي يسيء إلى النضال في حد ذاته، فالمناضل يفترض فيه أن يكون شريفاً»، وثالثها أن حيدر رفض «تطوير القصة بشكل تصور نضال الفلاحين في السهول وفي الجبال على حد سواء، وأصر على أن تبقى تمجيداً لمنطقة معينة واحدة، مما قد يفسر بتفسيرات كثيرة ومما قد يثير نعرات لا يجوز إثارتها قومياً ولا وطنياً»!
سيبقى السيناريو في أدراج المؤسسة حتى تتغير الحكومة، بل الحكم، مع انقلاب حافظ الأسد 1970، ثم ستقلع كاميرا تصوير الفيلم مقدّمة مرافعة قاسية ضد الحكم الوطني بعد الاستقلال. فالآغا يتمتع بعضوية المجلس النيابي، وابن عمه وزير، ولذلك يستطيع التأثير على مستقبل القائد المحلي لفصيل الدرك، والذي يجهد للإمساك بالفراري الذي لعب دوره أديب قدورة في أول ظهور سينمائي، وببطولة ممثلة حددت نمط أدوارها الساخنة حين اختارت لنفسها الاسم الفني «إغراء». وهي تعدّ «الفهد» نقلة مهمة في مسيرتها بالنظر إلى ما يحمله من مضمون تقدمي سيستهويها رغم كل شيء، ولأنه قدّم «المشهد الأجرأ» في السينما السورية، بظهورها عارية كلياً، بعد أن انتهى التصوير وجاء المخرج ومدير الإنتاج طالبين منها «إنقاذ» الفيلم، إذ خشيا أن يكون قليل الجاذبية للجمهور، بإضافة هذا المشهد. وفي عبارة شهيرة تروي إغراء إنها شعرت وقتها أنها فدائية أو انتحارية، ووافقت قائلة: «ليكن جسدي جسراً تعبر عليه السينما السورية»!
لم يكن هذا رأي شفيقة نور الدين، الزوجة الحقيقية لشاهين طالب بطل القصة الفعلي، فقد آذاها أن أحداً ممن كتب وصوّر لم يرجع إلى الأسرة للحصول على أي معلومة أو التأكد منها، ولم يقدّم أي منهم نسخة من كتابه كهدية، ولا بطاقات لحضور عرض الفيلم الذي أظهرها بهذه الصورة الفاحشة التي استهجنتها حتى لجنة تحكيم أحد المهرجانات المتخصصة في بلد اشتراكي صديق!
عزمت الزوجة على مقاضاة إغراء، لكنها استنتجت أنها أعجز من أن تواجه السينما الوطنية الظافرة طالما أن سندها في الحياة يقتصر على ولديها الشابين؛ علي الذي يحضر في القصة طفلاً، وهو، عند إنتاج الفيلم عام 1972، صف ضابط متطوع، وإبراهيم الذي ولد أثناء تمرد والده، وكان قد حصل بالكاد على وظيفة بسيطة في مصنع الأسمدة الآزوتية بحمص.
لكن طرفاً آخر ما زال يتأذى من القصة كلما أثيرت، هو آل الشلّي (الشلة) من بلدة عين الكروم. وهم عائلة كبيرة ينتسب إليها علي الشلي الذي وشى بالفهد، وهو ليس خاله كما قال الكتّاب والفيلم دون تدقيق في الرواية الشعبية التي ما زالت تلاحق آل الشلي وتصفهم بسمة الغدر.
ينفعل أفراد العائلة مهددين بكشف المستور، ويفصح بعضهم أن القصة الحقيقية تختلف عن المرويات. فشاهين كان مجرد سارق دجاج ولم يكن صاحب قضية ليتم تشبيهه بالحسين أو بغيفارا. وبندقيته الموزر التي تحتفي بها الأغاني هي عهدة من الجيش الفرنسي الذي كان متطوعاً فيه حتى طرد منه لاعتدائه على امرأة علوية، ليحاكَم أخيراً بتهمة ثابتة هي قتل ثلاثة رعاة ماعز فقراء للاستيلاء على طعامهم وعلى ما معهم من مال قليل.
يقول آل الشلي، الذين يكثر فيهم الضباط كما يشيع بينهم اسم علي، إنه من المسيء أن يُعيَّروا لأن أحدهم سلّم قاطع طريق للعدالة، ومن المعيب أن يستمر هذا الحديث بعد أيام «الأزمة» التي اندلعت في 2011 وقدمت فيها العائلة أكثر من مائة «شهيد».
لكنهم يغفلون عن أن تلميحات أخرى تحيق بسمعتهم. فمنهم علي الشلي الذي غدر بالمتمرد الاستقلالي الشهير إسماعيل خير بك (مشير الجبل) الذي شكّل حكومة الدريكيش في منتصف القرن التاسع عشر، ثم التجأ إلى خاله الفعلي الذي قتله وأرسل رأسه إلى العثمانيين.
ومنهم علي الشلي، الضابط في سلاح الحوامات في ثمانينات القرن العشرين، الذي خان وديعة شقيقه حكمت، الرائد الوحشي في المخابرات العسكرية الذي ائتمنه على ما تجمع لديه من ثروة حصّلها من بيع الأسلحة للمتمردين الإسلاميين، ريثما يقضي بضع سنوات في السجن بعد تخفيف الحكم عليه بالإعدام.
أما أحدث طبعات علي الشلي فهو شاب كان يبيع القهوة للمارة حتى انخرط في اللجان الشعبية عقب قيام الثورة، وشكل مجموعته الخاصة مستفيداً من علاقات قريبيه النافذين؛ فؤاد العضو السابق في «مجلس الشعب»، والعقيد/العميد الطيار وائل، ليصعد اسمه بشكل صاروخي ويجمع ثروة من الإتاوات والخطف والإتجار بالمعتقلين وفرض الخوّات على سيارات الركاب والبضائع وصهاريج الوقود، مستفيداً من تبعية مجموعته لقوات «النمر»، قبل أن يرتبط بالفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد.
يشتم أبو حسن، علي الشلي الأخير، حين يسمع هذه التهم، مؤكداً على بطولاته الوطنية، متفاخراً بالدماء التي أراقها في أرياف حماة وفي حلب وعلى أطراف العاصمة وفي غوطتها، مكرراً: «لولاي سقطت دمشق». لكن ما العمل بعد أن جمّده الروس في صيف 2018 وانفض عنه معظم رجاله وبات يحذر من مغادرة بلدته خوفاً من الملاحقة ولم يعد يملك سوى أن يتذكر زمنه الجميل، يوم كان حوله المئات وكان لا يتورع حتى عن مهاجمة حواجز الأمن العسكري، ولا يعبأ بنتائج شكاوى الحلبيين الميسورين للسلطة من ابتزاز حاجزه الخاص الذي كان على طريق خناصر، شريان الشطر الغربي من مدينتهم لسنوات.
يمسك الموبايل ويشغّل تسجيلاً لعرس أقيم في أيام العز تلك، ويطرب لصوت المغني الذي كان يصدح: «وينك يا علي الشلي… ولا إرهابي لا تخلي»…
تلفزيون سوريا
الأسد وأفلام أخرى/ أحمد عمر
رأيت في مقال الكاتب حسام جزماتي “سوريا الحائرة بين الفهد والأسد والنمر”، في موقع تلفزيون سوريا، وليمة ثقافية وسياسية وفنية ووثائقية، وهي حكاية لم يروها بيدبا الفيلسوف لدبشليم الملك. ووجدت بعد أمَّة، أنه يمكن إعداد مائدة ثانية من بقايا عظام الوليمة، وهو مقال لا زيادة فيه ولا نقصان. يكشف المقال القسم المستور من جبل الجليد، وهو يفسر كثيراً من نشأة سلطة الأسد، فهو يقتفي آثار أبطال الفيلم ومؤلفيه قصصاً، وإن كنت أرى أنَّ سوريا ليست حائرة فإنما هو ميراث، فما يجمع الوحوش الثلاثة هو الافتراس والشرى. وعلمت أن الفيلم أريد له يكون من أفلام التكوين والتأسيس الأول، وهو ما لم يكن قد دار لي بخلد، والانعطاف من عهد الرجعية المشؤوم إلى عهد التقدمية الميمون، مثله مثل فيلم من “أجل أولادي” الهندي، و”ذهب مع الريح” الأمريكي، “وآنا كارنينا” الروسي، وهو كذلك من حيث لم يردْ صانعوه، وقد أحسن الكتابة عن الفيلم، كما لم يفعل أحد، فكل ما قرأناه عن الفيلم كان ناقصاً. اسم الفيلم هو الفهد، وليس “من أجل عرشي”، وقد ذهبت سوريا مع الريح والنار. الفيلم يستحق الاستذكار والاعتبار ليس لجودته الفنية، بل لأن الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير..
هناك جملة شعرية صارت عنواناً ثانياً لمجموعة قصصية لكاتب سوري هي: ضع أذنك على الصدفة ستسمع صوت البحر، كذلك أيها السوري: ضع أذنك على الحجر وستسمع أنين الشعب السوري.
الفهد:
ذكر المقال أن ثلاثة أدباء علويين هم حيدر حيدر، ومحمد عمران، وممدوح عدوان اجتمعوا على خلق أسطورة من حكاية بوعلي شاهين، فكأنها اللجنة الفنية إذا ما تذكرنا اللجنة العسكرية التي جمعت الأسد بأربعة من رفاق السلاح الذين افترسهم لاحقاً. يروي الفيلم واقعة اقتياد فلاح مرابع إلى مخفر الدرك لتسديد ما بذمته من دين، فضُرب وأُهين، وخرج من السجن وهي عقوبة سنحسده عليها في سوريا الأسد التقدمية، فلم يكن هناك فهود في عهد الأسد يخرجون من السجون. غضب أبو علي وحمل السلاح وعاش في البراري يقطع الطريق على الناس ويسلب الأغنياء منهم، لكن صانعي القصة لم يحوّلوه إلى روبين هود علوي أو أخفقوا في ذلك، وإن سعى كاتب القصة مع زميليه إلى جعله كذلك، كذاك أخفقوا في تحويله إلى أسطورة في البطولة، فقد نُسي بعد ظهور الأسد، فقد كان دأب السلطة هو كتم صوت التاريخ، وتحويل أبطاله إلى ممثلين، فخالد بن الوليد هو باسم ياخور، وصلاح الدين الأيوبي هو جمال سليمان، وهارون الرشيد هو قصي خولي، كان الأسد مخلصاً في كتم التاريخ، وكان تيار الفانتازيا التاريخية في الدراما السورية هو أحد إنجازات الحركة التصحيحية المباركة في المحو والإنساء. هناك أخطاء أخرى: مثل ملصق الفيلم، وهو شعاره، فيه تلفيق يشبه شعارات حزب البعث العربي الاشتراكي عن الوحدة والحرية والاشتراكية، البوستر برئ من الفيلم، وفيه إغراء تطالع جريدة، وتدخن وتلبس زيا معاصرا، حكاية الفيلم نمطية، وفي الفيلم يهجم الدرك على الضيعة ويصيح رئيسهم في القرويين: أين الفهد؟ هذا يشبه أن يهجم فرع الجوية على تلبيسة ويصيح أين الثّوار وليس أين العراعير.
يُحسن الكاتب الظن بالكتّاب اليساريين الثلاثة، ويبرئهم من النزعات الطائفية وقتها، فقد كتبوا عن بطل فردي من بيئتهم، فلم يتحول إلى ثائر وطني وجماهيري لقلة الوعي الثوري، ويقال إن صالح العلي الذي تحوّل إلى بطل وطني مثل إبراهيم هنانو ليس إلا قاطع طريق مثل “أبو علي الفهد”، وإن ثورة الثامن من آذار هي التي ركبت صهوة القصة طائفياً، وإن وزارة الداخلية اعتذرت عن تنفيذ نص الحكاية فيلماً بعلل لا شبهة فيها، فهو متمرد ويسيء إلى سلك الشرطة، ولم يكن قد تحوّل إلى فيلم بعد، وإلا كثرت العلل والعيوب والأعذار، بظهور إغراء عارية، عريها لم ينفع القصة بل وأساء إلى أم علي، التي بقيت مغمورة، لم يحفل بها أحد، ولم يكرّمها أحد، لا هي، ولا التي مثّلت دورها مع تلك التضحية.
انضم إلى اليساريين الثلاثة مخرج دمشقي، يصف الكاتب تبنّيه قصة الفيلم للإخراج بقوله: ستمتد يد دمشقية إلى القصة، وحسبت أني سأقرأ وصفاً لليد الدمشقية بأنها: آثمة، إنَّ بعض الظن إثم. وقد مُنع نص الفيلم الذي سيواكب مسيرة المجتمع الاشتراكي من التصوير، بأعذار لا مرية فيها، أهمها هي أن الفهد ليس بطلاً، فهو قاطع طريق، غير شريف، ويثير النعرات، إلى أن جاء الأسد إلى السلطة فأجيز الفيلم وصار قاطع الطريق، النهّاب السلّاب، الذي يثير النعرات بطلاً، مرتين، مرة لأنه يقاوم الظلم ضد الرجعية، ومرة أخرى لقيامه لقضاء وطره من زوجته في الهواء الطلق. كان مشهد إغراء العارية أول إنجازات الحركة التصحيحية المباركة! فأنعم بها وأكرم.
من أجل أولادي:
لم تكن تلك المرة الأولى التي تظهر فيها إغراء، فقد أرادت أن تكون اسماً على مسمّى، كانت هي الأخرى فهدة باسلة مثل الفهد تغير على أحلام الشباب، وتسلبهم الآهات، وتكرّ عليهم في الصالات السينمائية بقصة وحيدة لا تتغير، هي حكاية راقصة شريفة على الجراح، كأنها مريم المجدلية. ثم ظهرت عارية في الفهد تامة العري، كما في أول الخليقة والنشأة، من غير ورقة توت، قيل إن المخرج ومدير الإنتاج شكّلا وفداً رافعين أكفّ الضراعة، متوسلين إليها إنقاذ الفن السابع السوري، وكان فيلماً حزيناً، وتعبيرياً لم نعهده في ذلك العمر، تصاحبه موسيقا بكائية، ووافقت البطلة على التضحية قائلة: «ليكن جسدي جسراً تعبر عليه السينما السورية»! ووصف المشهد بالأجرأ في السينما السورية، وكانت الجرأة في عهد الأسد وقفاً على النساء، وعلى أجسادهن، وعلى ورقة التوت الأخيرة، منذ الحركة التصحيحية المباركة. ألم يقل مكيافيلي جملته التي صارت قانوناً عند الانتهازيين: الغاية تبرر.. الفضيلة.
ذهب مع الريح:
لم تعبر السينما السورية بل ماتت بعد سنوات قليلة، لأن السينما لا تعبر على جسد امرأة حتى لو كان اسمها إغراء، وبذّتها فنانة أخرى أكثر حرصاً على صورتها، فلم تمنح أحداً قبلة في أفلامها حتى من وراء الزجاج، هي سميرة توفيق، بل إن توفيق دعيت منذ سنتين إلى عاصمة عربية وكرّمت، بينما ماتت إغراء فنياً وهي تغالب حسرتها، الذي عبر على جسدها ليس السينما، وإنما الأسد.
الحسناء والوحش:
يستخدم جسد المرأة كثيراً جسراً للعبور على الأنهار والوديان السحيقة والعقائد، وأحياناً للحجز والإعاقة مثل سيرينات أديسون في الأوديسة، لكن للمسافات القصيرة. في كل المهرجانات في عهد الأسد كان الخطيب البعثي يخطب خطاباً عن العزة والكرامة والبطولة والوطن والمقاومة والصمود، ومعه حسناء إلى جانبه، جميلة جداً، لا بد للوحش من حسناء، فكان المستمعون “يصيخون” البصر وليس السمع وهو حسير. جسد المرأة امتحان قلّما ينجح المناضلون في اجتيازه، فذكور البشر ليسوا مثل ذكور النحل، عند البشر الملكة هي التي تموت، وليس ذكر النحل كما في مملكة النحل.
وكان التلاميذ يساقون إلى الفيلم لمشاهدته كتاباً مفروضاً، مثله مثل فيلم “رجال تحت الشمس”، فكان أول فيلم تعليمي عن الجنس والثورة في دولة البعث، مُدّد عرض الفيلم في صالات العرض، وشاهده كثيرون عدة مرات أو شاهدوا اللقطة الأثيرة وخرجوا، لكن إغراء لم تتحول إلى أيقونة أو قديسة، وماتت السينما السورية.
العرَّاب:
دافعت إغراء عن بطولتها وعن الشرف، في لقاء عملته فضائية مغمورة معها، وحاولت إجلاء معنى الفضيلة للذين لا يفهمون معناها ومعنى الفن، واستشهدت بممثلة إغراء يونانية اسمها ميلينا ميركوري تولت وزارة الثقافة والرياضة، وقادت المظاهرات، لم تدرك أنَّ الأعراف والتقاليد العربية مختلفة عن الإغريقية، وعلمنا أن المخرج عمر أميرلاي صاحب فيلم “الطوفان” كان ينتوي صناعة فيلم وثائقي بعنوان “في أثرها”، بعد فيلم “الطوفان”. أخبرت مرة صديقاً مهتماً بخبر عمر أميرلاي وحلمه بفيلمه في أثر إغراء، لقد عمل جهده في الطوفان عن الوحش ويحاول تتبع أثر الحسناء، فقال الصديق بأسى وتجمِّل: لقد كسرت قلبي يا ألفريدو.
كان دور أبو علي من أشهر أدوار أديب قدورة، مثّل أفلاماً ومسلسلات، لكن زميله في الفيلم خالد تاجا صار نجماً، وبقي هو مغموراً، منسياً. قلت لصديق شاهد معي فيلم “الغجرية العاشقة” في الفترة نفسها أو بعدها بقليل: أتعلم أن شرير فيلم “الغجرية العاشقة” هو أديب قدورة أبو علي الفهد، فلم يصدق، هو بشحمه ولحمه من غير البارودة، كل ما هناك أنه حلق لحيته، لم يصدق أنَّ الثائر على الدولة هو خاطف الغجرية العاشقة من أجل الابتزاز، فالسوريون كانوا ومازالوا يطابقون بين الممثل وبين الدور، في الجمع والاسم المفرد، بل إن المخرجين أنفسهم كذلك يفعلون، فجو بيتشي الممثل الأمريكي من أصل صقلي، لم يظهر سوى في أدوار المافيا، وكانت شخصيات المسلسلات السورية الأولى شخصيات نمطية راسخة مثل غوار وأبو عنتر وأبو صياح…
عواء الذئب:
يذهب الكاتب إلى الطرف الثاني في الحكاية، طرف الشر، وهو الخال الواشي وأبناؤه، فقد عمل الأبناء في التشبيح الصافي، وهو عمل وطني لدى الفريق الآخر، وسادوا، على نقيض ابني الفهد، ليس النقيض تماماً، فأحد ابنيه تطوع في الجيش، والثاني يعمل في شركة السماد الآزوتي. المقال يرثيهما، لكن التطوع في العسكرية والحصول على وظيفة ليس متاحاً لكل أحد، وتلك نعمة في دولة الحركة التصحيحية.
قصة أبو علي هي قصة الشعب السوري والثورة السورية. عاد أبو علي إلى بيته بعد عقوبة وإهانة، واختفى عشرات آلاف السوريين منذ أن تولى الفهد الثاني السلطة، ولهذا قامت الثورة السورية. قلنا إن الكاتب وفّق في العنوان والخاتمة أحسن توفيق، وهو مقال للذكرى، ولو أنَّ مفترساً رابعاً لم يذكر في المقال، هو أبو عمر، في فيلم بالأسود والأبيض اسمه “عواء الذئب”، أبو عمر فراري، خارج عن القانون مثل الفهد، اشتهر بجملته: “ألف حبل مشنقة ولا يقولوا أبو عمر خاين يا خديجة”، ولم تشتهر جملة لأبي علي، لم يعش أبو عمر إلى زمن الثورة، الذي قتل فيه خالد تاجا تحت التعذيب، ولا نعرف أخبار عمر وأخوته، وأغلب الظن أنهم إما نازحون وإما ماتوا تحت التعذيب، أما مصير خديجة، فهو بين اثنين: نازحة أو مغتصبة في المعتقلات السورية.
الفارس الأخير:
بالأمس القريب بثّتْ الفضائية الروسية الإنكليزية حواراً للأسد الابن الذي جعل والده من فيلم الفهد سماداً آزوتياً للحركة التصحيحية، وصف الأسد الاحتلال الأمريكي الإمبريالي وصفاً يقارب الغزل والمديح، لقد وصفه وصفا عجيبا، والفضائيات السورية البعثية العروبية تصف الروس والإيرانيين بالأشقاء. لا أحد يأمل من الأسد أن يحمل بارودته ويعلن ثورة في الجبال والسهول، مثل أبو علي الفهد، ضد الإمبريالية “الشرسة”، التي صدّع رؤوسنا بها في الصحف والخطب، ولا مثل الملك أرثر في فيلم “الفارس الأخير” عندما هتف قبل أن يرمى بالسهام: قاتلوا.. قاتلوا. وصف الأسد الاحتلال بالوجود الأمريكي في سوريا!
لقد كسرت قلبي يا ألفريدو.المدن