رواية «الحي الروسي»… المراوحة في الحياد القاتل/ عبد الرحمن حلاق
تمنح المفكرة الألمانية حنة آرندت التفكيرَ قيمةً عظمى، إذ لا تراه في المعرفة، بل تتجلى أنفاسه، كما ترى، في القدرة على التمييز بين الخير والشر، بين الجمال والقبح، وهو الذي يمنح الإنسان القدرة على تجنب الكوارث في تلك اللحظات الحاسمة عندما تبدأ السفينة بالغرق.
تأسيساً على ذلك يمكن القول، إن التفكير يمنح الإنسان طوق النجاة، ويُفترض بالمشتغل في حقول المعرفة والأدب أن يكون مفكراً قبل أن يكون فيلسوفاً أو أديباً، ولم يرحم التاريخ مفكراً وقف محايداً بين طرفين، خاصة في القضايا المصيرية التي تهدد بغرق السفينة، فالحياد سيجعلك في موقف لا تحسد عليه أمام الجميع، خاصة عندما تكون السفينة وطناً كاملاً.
في النص الروائي موضع القراءة نجد أنفسنا أمام رواية»الحي الروسي» للروائي السوري خليل الرز، وأقل ما يمكن القول فيها، إنها رواية حياد براوِ وحيد مشارك في الحدث، وعندما نقرأ رواية تعتمد هذا الأسلوب في الروي، فإننا يجب أن نتوقع سلفاً أنها رواية بوجهة نظر واحدة، وبالتالي فهي رواية تتعامى أو تتغافل عن وجهات النظر الأخرى، على عكس الروايات ذات الأصوات المتعددة، فما الذي يمكن أن يقدمه راو واحد يعيش الأحداث بحيادية تامة، ويضفي على المكان أيضاً حيادية مطلقة.
ملامح الحياد في النص الروائي
على صعيد المكان تدور الأحداث في الحي الروسي وهو حي نشأ على أطراف العاصمة القديمة دمشق إثر « ثورة الثامن من آذار المجيدة» يحوي كل مقومات الحياة من ملاهِ ليلية وكباريهات، ومكتبات ومطاعم وعربات شواء ليلية في الشوارع، وحديقة حيوان بإشراف روسي مع المركز الثقافي الروسي، وإمعاناً في الحياد فقد اختفت المظاهر الدينية بالمطلق من الحي، على اختلاف منابتها، ويقرر الراوي في نهاية النص، أن الحي الروسي منذ إنشائه، لم يراكم أي خبرة في التظاهر على الإطلاق، وينظر إلى المظاهرات على أنها شكل من أشكال الإرهاب الممول من الخارج.
أما على صعيد الشخصيات فنجد البطل ( الراوي المشارك بالحدث ) وهو مترجم يعيش في غرفة على سطحِ حديقة الحيوان، تشاركه في السكن صديقة روسية (نونّا) ، يعمل هذا المترجم مع رئيس الحديقة في مجلة الحائط، وهو كذلك يعلن حياديته تجاه كل ما يحدث من حوله، فتراه جالساً يتابع مباراة كرة القدم بين إسبانيا والأرغواي، جرت قبل خمسين سنة، بينما يستمع إلى أصوات المدافع القريبة، يشرب الشاي وينتظر فطيرة التفاح، ومع أنه في منتهى الحياد، إلا أن ما يجري حوله سيفرض نفسه بالإكراه على كل الموجودات في الوطن، لذلك نراه يتابع كما كل أهالي الحي الأحداث الجارية، من خلال ما يحدث ضمن شاشة التلفزيون، حتى أنه يُسمّي الأحداث منذ اعتقال أطفال درعا بأحداث التلفزيون، فالمدافع تقصف (جيراننا في الغوطة) وعندما يستبدل الراوي كلمة أهلنا بكلمة جيراننا فهذا يعني أن ثمة جداراً فاصلاً بين الجار وجاره، والجار قد يكون حسناً وقد يكون جار سوء، وعندما تعيش في حي لا يعرف التظاهر، ويسمي ما يحصل بأحداث التلفزيون، فهذا يجعلك أقرب إلى تصديق تمثيلية نظام الطاغية حول المجسمات القطرية، مما يعزز في نهاية النص عندما يفرض الواقع نفسه، أن يلجأ الراوي ومن معه من أهل الحي إلى الملجأ الأكثر أمانا، والمتموضع في العاصمة دمشق عندئذ لن يبقى للحياد معنى وسيصطبغ بشبهة الحياد القاتل.
الشخصيات والبنية الحكائية للنص:
يؤسس خليل الرز نصه بالمجمل على مقولةِ اختلاف الحقيقة، باختلاف وجهة النظر و«أن لا ترى شيئاً لا يعني في نهاية المطاف عدمَ وجوده»، وهكذا تأسيس سيفرض أحداثاً يُنظر إليها من جوانب متعددة، وينتج عنها حوارات متعددة، وهذا قد يرهق جسد النص، ويجعله في خانة السجالات اليومية وهنا يبتكر الكاتب ـ وهذا يُحسب له فنياً ـ بيئة مختلفة كلياً بشخصيات نصفها بشري والنصف الآخر حيواني، وكي لا يقع في سذاجة ابن المقفع في استنطاق الشخصيات الحيوانية، عمد إلى وسيلة مغايرة مفادها استنطاق الحيوانات عبر التخاطر والحدس والتحليل، مستعيناً بصديقته الروسية نونّا ابنة رئيس حديقة الحيوان فيكتور إيفانيتش، التي «ملأت بوجودها الحيوي ومخيلتها الغنية فراغات كثيرة، فاتني أن أنتبه إليها في حواس الزرافة واهتماماتها ومتعلقاتها»، ولتحقيق ذلك يستهل الكاتب الرواية بفصل خاص عن الزرافة فمن هي الزرافة رمزياً؟ وللإجابة عن هذا السؤال نتتبع بعض الحقائق والصفات التي أسبغها الراوي على الزرافة، فقد اكتشف بمساعدة الروسية نونا، أن الزرافة تحب البصل، وتستمتع بمضغه، وأنها لا تحب الماء، فهي تكتفي بشرب القليل منه كل ثلاثة أيام، ولا تستطيع تنظيف نفسها، ولقلة الطيور التي تتغذى على الحشرات العالقة بين وبرها تقوم الروسية نونا بتنظيفها، ثم إنه وبالملاحظة اكتشفت نونا أن الزرافة لا تنام سوى بضع دقائق، وأيضاً هي حسب معلومات رئيس الحديقة عمياء لا ترى، وهنا يختلف الراوي ونونا مع فيكتور، فهما على قناعة بأنها ترى وفي تفسير نونا لعدم نوم الزرافة، تفترض أن تاريخها الحافل بالدم والقتل في الغابة، وخوفها من زئير الأسود المعشش في دماغها، هما ما يجعلانها لا تنام، ومع ملاحظتها بأن الزرافة تنتبه لما يجري في التلفزيون، تقرر أن تعالج الزرافة من مرض قلة النوم، وتجعلها تشاهد الأسود وهي تزأر لتتخلص من خوفها، خاصة أن الزرافة تستمتع كثيراً بمشاهدة «الأغاني والأفلام والمسلسلات، ولا تتضايق أبداً من الدعايات وبرامج تعليم المناهج والأخبار وبرامج العمال والفلاحين». وخلال صفحتين من هذا التعداد سيكون من السهل جداً على أي متلقِ التوصل لقناعة تامة أن الزرافة هي الشعب. نعم هي الشعب الذي حبسه الراوي في حديقة حيوانات، وهذا الراوي هو ذاته الشخصية المشاركة في الحدث المنبهرة بملاحظات نونا، والمستمدة منها المعرفة (وقد تعلمت، من ناحيتي، أن لا أدقق ملاحظات نونا التفصيلية الحارة عن ميول الزرافة واهتماماتها بأسئلتي المنطقية الباردة في بعض الأحيان، لقد استطعت، شيئاً فشيئاً أن أتقبل الزرافة، كما ترويها نونا لي فأدمجها، ما استطعت وعلى مهلي، بالزرافة التي تقدمها لي خبرة مشاعري القديمة بها». وبهذا الاقتباس يُظهر الراوي السوري المترجم المثقف دونيته تجاه نونا فما كان يعرفه عن الشعب هو بعض نتاج مشاعره القديمة.
وعبر فصل جديد (الزرافة وأمي) يُظهر الراوي انتماءه لهذا الشعب فنرى الراوي يدمج بين الزرافة وأمه، فقد لاحظ أن الزرافة تنظر إليه بعيني أمه، وهذا الدمج سيستثمره الكاتب في الفصل الأخير من الرواية.
أما عن الحي الروسي، الذي يحتضن أحداث الرواية، فيبين الراوي أنه خاضع بالمطلق لسلطة أحد أبناء الحي (بوريا) وهو «المتنفذ الفعلي بمصائر الحي الروسي، بعلم ومباركة الجهات الرسمية في العاصمة القديمة دمشق»، ويمارس سلطته بتعسف شديد، من حيث فرض الأتاوات على الملاهي والخمارات وغيرهما، واحتكار التجارة في الحي، وله رجاله الذين يفرضون سطوة لم يكدرها أحد على الإطلاق، سوى عصام بطل «الجمهورية العربية السورية» بالرماية ورفع الأثقال، الذي تحدى ذات يوم سلطة بوريا، وأخرج أحد الملاهي من سيطرته، ليتكفل عصام به بعد أن تعرف إلى عازفة العود المغربية وسكن معها، وبهذا تحول عصام في عيون أهل الحي جميعاً إلى رمز يجلّه الجميع، ويعقدون عليه الأمل بالخلاص من سطوة بوريا، وكادت أن تحصل المواجهة النهائية ذات يوم، لولا أن الثلج بدأ بالهطول، فانسحب الرجلان وسط احتفالات الحي بالثلج وفرحهم به، ثم راحوا ينتظرون تلك المواجهة، التي عبّر عنها الراوي بعبارة، أن الزمن هو من يؤلف القصص والحكايات، وهنا يستعرض الكاتب خبرته المعرفية بكيفية معالجة الزمن لأحداث القصص والحكايات. وبالعودة إلى المفهوم الأساس الذي أراد الكاتب أن يؤسس نصه عليه (أن لا ترى شيئاً لا يعني عدم وجوده) نجد أن العلاقة بين نونا والزرافة، تتطور إلى درجة أن نونا تفهم أفكار الزرافة، وتتواصل معها، لكن ترجمة هذه الأفكار ما كانت لتنجز إلا عبر حياكة الصوف، فتبدأ بحياكة أفكار الزرافة علّ الجميع يفهمون ما تريد قوله «نونا تحوك شيئاً صعباً وغالياً على قلبها، يتعلق على الأغلب بمستقبلنا جميعاً»، وللتأكيد على حالة التخاطر تدخل الكلبة الأفغانية «رئيسة بتروفنا» كشخصية روائية مهمة في الأحداث، التي تقوم بشكل يومي بعملية تنظيف خطم الزرافة. ومؤكد أن الكلبة تتواصل أيضاً مع الزرافة، عبر تخاطر الأفكار، ما يجعل الكلب موستاش، الذي يسعى جاهداً لبناء علاقة معها، رغم صغر حجمه ( كلب بودول) بالقياس مع الكلبة الرئيسة، لكن الراوي يوضح لنا سر العلاقة بينهما قائلاً: «ما شدّ موستاش إلى الكلبة لم تكن رائحتها الأصلية، ولكن رائحة الأفكار الطازجة العالقة بها، التي تحصل عليها بدون أن تشعر الزرافة». وقد استطاع موستاش أن يجلي أحد أسرار ما تحوكه نونا، بمعنى أنه ترجم أحد أفكار الزرافة، عندما أتى بصاحبه أبو علي سليمان إلى سطح الحديقة، ليرى نسيج نونا، ويكتشف أن النسيج يحوي عصفوراً لم ينتبه إليه الجميع فالزرافة، إذا زرعت الأمل في النفوس، ولابد لهذا الحي من أن يحلّق يوما في سماء زرقاء ووسط غيوم خضراء ونجوم ذهبية، لقد اكتشفوا وجود شيء ما لم يكونوا يرونه.
وهذا ما جعل رئيس الحديقة يكتب مقالاً (بالروسية طبعا) ويترجمه الراوي ويستعرض فيه أفكار الزرافات، التي يمكن العثور عليها في الهواء الذي نتنفسه، وربما تحلق هذه الأفكار في رؤوسنا، وتطرّق أيضاً إلى نباهة الكلاب في التقاط هذه الأفكار. ويأتي الدليل على ذلك تالياً برؤية نونا لمنام يظهر فيه عصام ضخماً ،وكذلك يراه معظم أهل الحي. لكن نقطة التحول كانت عندما يزور عصام بشكل مفاجئ سطح حديقة الحيوانات، ثم ينهي الزيارة بدون أن يتحدث عن أي شيء يعزز الأمل بالخلاص من بوريا، ما يشكل لهم صدمة فيخيب بذلك أملهم وتزداد الأمور سوءاً عندما يتوجه عصام إلى الغوطة، وهذا السلوك لا تفسير له عندهم، سوى أن عصام «قد جرّ كرامتهم العزيزة القديمة معه إلى الغوطة»، وهم لا يستطيعون طمس عصامهم بالوحل وسوء النية والثرثرة. خاصة أن الزرافة تبشر بمستقبل مشرق والزمن مؤلف محترف للقصص. لكن ذهابه إلى الغوطة أمر جلل وعظيم فالقتال «في سبيل شيء يعني تخلي الحي الروسي عن طبيعته وزجه في فكرة مجردة شاملة واحدة، تحتاج إلى إثباتها ونشرها والدفاع عنها في كل لحظة». إلا أن عصام عاد في اليوم التالي قتيلاً، وبوصول جثته مهربة من الغوطة يضع الحي أمام محنة جديدة، فهو الرمز العالي، الذي يجب أن يُكرّم بجنازة تليق به، وهذه الجنازة لا تتم إلا بموافقة بوريا والسلطات في العاصمة دمشق. لو أنه قُتل على أيدي الملثمين لسمحوا لهم بذلك لكن أن يُقتل في الغوطة فهذا يعني تحدياً سافراً، وبعد مباحثات مع بوريا يقرر الحي دفنه ليلاً، قبل بزوغ الفجر، وقد أقاموا له جنازة تليق به بالفعل بفضل الممثل المسرحي الذي حشد له الطبول والأبواق النحاسية، وعدداً من الملائكة وأثناء الدفن تقوم المروحيات بالتحليق فوق رؤوسهم، مسلطة عليهم الإضاءة القوية لكنها لم تلقِ البراميل فوق رؤوسهم، ربما كانت تصور الحشود لمعرفة الشباب المختبئين والهاربين من الخدمة الإلزامية، الذين خرجوا من مخابئهم متنكرين بثياب النساء، أو العجزة للمشاركة بالجنازة، وبعد إنزال النعش وتغطيته بقطعة النسيج التي حاكتها نونا بعصفورها وغيماتها الخضر وسمائها الزرقاء، أهالوا عليه التراب، بينما يفكر الراوي بتضاؤل حجم هذا العصام، الذي رآه لحظة وضعه بالنعش، فقد بدا صغيراً جداً بعكس الصورة التي رسمها الحي عنه، أو التي رأته نونا عليها في المنام. وفي أثناء العودة يحصل انفجار شديد في الحي، وعندما يصلون الحديقة يرون أنها قد أضحت خاوية على عروشها، وقد شردت منها الحيوانات ووجدت الزرافة نفسها وحيدة في الشارع، بينما أهالي الحي وجدوا أنفسهم في لحظة سكونية لا يدرون ما العمل، ولا يستطيعون العودة إلى البيوت خوفاً من الاعتقال. في هذه اللحظة تتحرك الزرافة فيجدون أنفسهم يسيرون خلفها، لا شعوريا حتى أن الراوي يشعر بأنه يسير خلفها مشدوداً بحبل سري، في إشارة ثانية لرمزية الأمومة، التي كان قد استغلها في بداية النص، تخرج الرواية بهم من الحي الروسي، يعكس المشهد حالة من التشتت والانقياد القطيعي، يسم فيه الراوي أهل الحي. تدخل حياً «محررا» يصف فيه الراوي حجم الخراب والدمار الهائل، ثم تنعطف بهم جهة العاصمة ومنذ بداية المسير يبدأ الخوف من أن يظن من يراهم، فيحسب المسير مظاهرة ويكتب تقريراً عنها، لذلك سار معظم أهالي الحي متجهمين وكأنما هم مجموعة مسافرين، حتى أن الراوي بدأ يسير وكأنه أعرج، ليوحي بأنه مصاب خوفاً من الحقيقة التي سيراها صاحب وجهة النظر الأخرى.
قلة قليلة فقط كانوا يسيرون مرفوعي الرأس يلوحون بقبضاتهم، في مقدمتهم موستاش، الذي لم يكف عن النباح تسير بقربه بزهو الكلبة رئيسة بتروفنا، وتتبعهم نونا التي ربما انفصلت عن الراوي كي لا تراه جباناً، تواصل المسيرة ـ المظاهرة طريقها إلى ساحة الأمويين لتخرج دبابة برشاشها وترمي الزرافة برشقة ترديها، وبذلك يموت الرمز الثاني في حين ظل موستاش «يهتف».
بعض الإشارات المهمة
لماذا توجهت المسيرة إلى ساحة الأمويين؟ قد تكون وجهة نظر الكلب موستاش احتجاجاً، أما من وجهة نظر الراوي وغالبية أهالي الحي، ربما لكونها ملجأ وخلاصا من ظلم بوريا، وقد تكون هذه الوجهة مرتبكة قليلاً فهم في محصلة الأمر لجأوا إلى حيث الأمان. وهذا ما يفقد الرواية حياديتها رغم ذكر الرواية لحالات التعسف والظلم من قتلٍ تحت التعذيب ومن إلقاءٍ لبراميل القتل والدمار، لكن قد يكون ذلك مبرراً بالنسبة لهم، إذا عرفنا أنهم على قناعة بأن جيرانهم الإسلاميين يخوضون حرباً ضد النظام، أما عن كراهيتهم للإسلاميين فأيضاً تبررها لهم حادثة جرت أثناء مشاهدتهم «لأحداث التلفزيون» حيث كان يعرض الطائرات، وهي تدمر حمص في وقت يقوم فيه الأب فرنسيس بفتح الدير للنازحين، فيقوم أحد الملثمين بإطلاق النار عليه، وبذلك يصبح الملثم أحد أسباب التدمير التي تقوم بها الطائرات. ثم إن عصام قُتل في الغوطة بفتوى إسلامية، لأنه يساكن امرأة مسلمة لعدة سنوات دون عقد نكاح ولأنه يحمي ملهى ليلياً.
يتضح مما سبق أنه حتى الحياد يمكن أن يكون وجهة نظر، لكنه حياد يميل جهة القاتل إذ لا نجد عبر صفحات الرواية من ينقل وجهة نظر الآخر المختلف بموضوعية، فقد قبض الراوي على الحكي منذ الكلمة الأولى حتى آخر كلمة، ولم يأت على ذكر أي سبب من الأسباب التي دفعت الناس للمظاهرات التي أُطلق عليها الرصاص، ولم يتطرق للبدايات مطلقاً وإنما حصر زمن الأحداث بزمن حصار الغوطة. إضافة إلى هذا الحياد القاتل يمكننا الحديث عن التعالي الزائف الذي يمكن أن نتهم الكاتب ذاته به، عندما جعل الشعب على هيئة زرافة عجماء تحتاج إلى وسائط متعددة لترجمة أفكارها، التي لا يمكن الجزم بصحتها أو خطئها، حسب تبريرات الكاتب الذي يخاتل المتلقي بعبارة (عدم الرؤية لا تعني عدم الوجود)، وكذلك عندما جعل المتظاهرين من الفصيلة العجماء ذاتها (كلابا وديكا حبشيا وقططا) وجعل قيادة المظاهرة لكلب بودول عجوز «عالق بأفكاره الخاصة المتلاطمة» وهو في هذا التعالي الزائف يتناغم مع شريحة واسعة من «المثقفين» الرماديين غير القادرين على التقاط اللحظة التاريخية التي فجّرت أعظم ثورة في العصر الحديث، كذلك يتناغم مع ذاته بصورة واضحة، فالراوي يتطابق مع الكاتب خليل الرز، حتى لمن لا يعرفه شخصياً. وفي نهاية المطاف يحق للمتلقي أن يتساءل حول قصدية الكاتب باختزال سوريا الكاملة بحي روسي وبث الإشارات حول تقدمية روسيا التي تعلمنا وتسهر على تنظيفنا من أوساخنا، وهي قادرة على ذلك من وجهة نظر الراوي (خليل الرز) الذي استحضر فصلاً كاملاً حول ممثل مسرحي يستلهم اللحظات الأخير لسقوط نابليون، فمن هزم نابليون وجعله يتقهقر ثم يستسلم قادر على سحق زرافة تحلم بسماء زرقاء لا بسماء نعلٍ عسكري.
تقع الرواية في (286 ) صفحة صادرة عن دار فضاءات اللبنانية بالاشتراك مع منشورات الاحتلاف الجزائرية. للكاتب السوري خليل الرز.
٭ كاتب سوري
القدس العربي