عن عشق امتلاكها إلى الأبد: تعالوا نتحدّث عن قراصنة الكتب!/ خليل صويلح
ماذا بخصوص لصوص الكتب، ألا يستحق هؤلاء المهووسون التفاتة جانبية؟ يُخفي معظم مرتادي المكتبات ومعارض الكتب العربية ذكرياتهم عن كتب سرقوها، أو عن طريقة «لطشها»، فيما يشكو باعة الكتب من ازدياد حدّة هذه الظاهرة، من دون أن يجدوا وسيلة للتغلّب عليها، فاضطروا إلى التعامل معها بوصفها ضريبة إجبارية. هناك حكايات لا تُحصى عن سرقة الكتب، ليس بين القرّاء المجهولين فقط، وإنما بين الكتّاب أنفسهم، إذ لا تخلو مكتبة شخصية من كتاب تسلل إليها عن طريق خفّة اليد أو الاستعارة الملغومة. في كتابها «الرجل الذي أحبّ الكتب كثيراً» (2010)، تقتفي الكاتبة الأميركية أليسون هوفر بارتليت أثر المدعو جون جيلكي، أشهر قراصنة الكتب النادرة في أميركا، وتجري معه حواراً عن هوسه بسرقة الكتب، الهوس الذي قاده إلى السجن أكثر من مرّة، من دون أن يشعر بالذنب. كما تتعرّف إلى أحد ضحاياه، وهو صاحب مخزن للكتب النادرة يُدعى كين ساندرز الذي تحوّل إلى رجل مباحث هاوٍ بقصد القبض على هذا المجرم. هكذا سنقع على قصة حقيقية عن سارق كتب متسلسل، وصاحب مخزن للكتب النادرة، في مطاردة محتدمة، تشبه لعبة القط والفأر. لا تكتفي أليسون بارتليت بهذه الحبكة البوليسية، إنما تنهمك بتوثيق تاريخ سرقة الكتب عبر العصور وجمعها، والتنقيب عن سرّ هذا الشغف أو العشق، وسحر عمل الحواس في الرؤية واللمس والشّم. يعترف جون جيلكي أنه مهووس بسرقة الكتب النفيسة، بإغواء النقوش، والحواف الخشنة للصفحات، الطبعات الأولى النادرة، من دون أن يهتمّ بقراءتها (جرّبت أن أقرأ رواية «لوليتا» لنابوكوف، ولم أكملها، رواية مثيرة للاشمئزاز) يعترف. كأننا حيال نسخة ثانية معاصرة من «الجريمة والعقاب». لذلك، تبدو ورطة الكاتبة كبيرة وهي تغوص في تاريخ هذه الكنوز، في محاولة لتفكيك ألغازها، بسردية تمزج التحقيق الصحافي الاستقصائي مع أدب الجريمة، بهوامش كثيرة تحتوي عناوين أهم الكتب التي اقتناها هذا اللصّ، ما يفتح شهية القارئ على قراءة هذه العناوين التي أغوت جون جيلكي كي يخوض هذه المغامرة الخطرة التي ستودي به إلى «فتنةٍ قاتلة». طبعات نفيسة من كتبٍ قديمة، وأخرى حديثة، في مزادات مفتوحة، وجولات محمومة في أسواق الكتب المستعملة «بعدما أنهيت جمع المعلومات عن اللص والبائع وتجارة الكتب النادرة، وجدتُ أن الحكاية لا تتعلق بمجموعة من الجرائم فحسب، بل بعلاقة الناس الحميمة والمعقّدة والخطيرة أحياناً مع الكتب. تناوب عشاق الكتب المثقفون مع محتالين جشعين في عالم الكتب النادرة على مدى قرون من الزمن» تقول. هنا مقاطع من الرواية التي ترجمتها إلى العربية حنان علي، وستصدر قريباً عن «دار المدى».
كفراشة يجذبها اللهب
أهلَّ نهارُ الثامن والعشرون من نيسان عام 2005 مشرقاً بربيعٍ معتدل في أنحاء نيويورك، المدينة التي لاحت بدورها مترعة بالوعود الندية عند مفارق بارك أفينيو وشارع السادس والستين الشرقي، حيث احتشد الناس مبتهجين، مترقبين افتتاح معرض نيويورك للكتب الأثرية، متشوّقين لبدء البحث عن الكنوز . يقام المعرض السنوي في «بارك أفنيو أرموري»، المبنى الأثري العتيق بأبراجه ذات التيجان والبوابات العالية، والتي وصفها أحد المؤرخين أنها عظيمة بما يكفي لدخول وخروج أربع قوافل من المبنى. لم أحظَ بالمرور بمثل هذه القوافل حين وصلت، لكنني تعثرتُ بدفق دؤوب من أُناس متعطشين للكتب عابرين للأبواب، متحمّسين، عساهم يلمحون مرادهم، ويتلمسون طرائدهم: سواء أكانت باكورة الطبعات الحديثة، النصوص الموشحة بالمنمنمات، الثقافات الأميركية، كتب القانون، كتب الطبخ، كتب الأطفال، كتب تاريخ عن الحرب العالمية الثانية، أو مخطوطات (لاتينية منها «منذ المهد» أو الكتب العائدة لفاتحة الطبعات بين عامَي 1450 حتى 1500)، إلى جانب الكتب الفائزة بجائزة «بوليتزر»، التاريخ الطبيعي، الأدب الإيروتيكي؛ مع إغراءات كثيرة لا تعد ولا تحصى.
عزّز حراس الأمن مواقعهم في الداخل استعداداً للشرح مرة ومرتين للتنبيه إلى وجوب التخلّي عن جميع المحافظ باستثناء أصغرها عند تفتيش المعطف. أشرقت الأضواء العلوية ساطعة وحارة كأنها إضاءة مسرح، بما أحالني ممثلة تتجول فوق الخشبة بلا نصّ أو جمهور. لا أزال أحمل منذ مراهقتي شغفاً لَدوداً لزيارة سوق السلع المستعملة، حيث أجوس بالقطع الجذابة والمثيرة للاهتمام. أما آخر مقتنياتي، فكانت حقيبة طبيب قديمة استخدمتها كحافظة نقود، مع تشكيلات خشبية ترمز لمعدات الملاحة، معلقة الآن على جدار في منزلي، يضاف إليها مجموعة أدوات لإصلاح الساعات القديمة، إلى جانب قوارير زجاجية ذات حجم ضئيل للغاية. (أما خلال فترة مراهقتي، ففد ابتعتُ بعض المجوهرات المزيفة، مع أشرطة تسجيلية ذات ثماني بكرات، وضعتها في مسجلة شاحنة عشيقي). إن معرض الكتاب مختلفٌ تماماً عن تلك الأسواق. إنه هجينُ متحفٍ ومزاد، محشو بالكتب التي تقدّر قيمتها بملايين الدولارات، ومجموعات رق تفوق تصورات أي ورّاق. يطارد هواة جمع الكتب أجنحة محددة، بينما يعدّل الباعة معروضاتهم فوق الأرفف مع عيون شاخصة على الموجودات الأكثر قيمة، والمحمية ضمن علب زجاجية متلألئة. حتى إنهم وضعوا بعض البضائع على وجوه طاولات العرض، حيث يمكن لأيّ شخص عابر أن يلتقطها ويتصفحها. يبدو أن الجميع ـــ باستثنائي ــــ يعرف بالضبط ما الذي يرنو إليه؛ حيث لا يشابه مرادي حالهم حين يبحثون عن الطبعات الأولى أو المخطوطات المزخرفة. بالرغم من محبتي لقراءة الكتب، وتقديري لسحرها الفتان، لكنني مع ذلك، لا أهوى جمعها. لم أتجول، في الواقع، عبر المعرض إلا لفهم ما الذي يدفع الآخرين للقيام بذلك. أردتُ الخوض في عالم الكتب النادرة عن قرب، بعاداته وطقوسه الغريبة تماماً عني. مع أمنيةٍ ــــ وأنا متأكدة أن كل شخص في هذا المعرض يتمنّاها ــــ تتمثل في كشف سر أولئك الذين يقودهم شغفهم إلى سرقة الكتب التي يحبونها.
تحقيقاً لهذه الغاية، أتيتُ إلى هنا لمقابلة كين ساندرز، بائع الكتب النادرة في مدينة سولت ليك والملقب بالشرطي السري، بعد حديثي المطوّل معه عبر الهاتف والذي أجريناه قبل فترة من الزمن. يتمتّع ساندرز بسمعة طيبة كرجل يتلذّذ بالقبض على لصوص الكتب، كشرطي احتفظ بقدراته لسنوات من دون مساعد، إنه يستمتع في الوقت نفسه بأي فرصة لمشاركة قصة جيدة يرويها للآخرين. قمت بالاتصال به قبل أسابيع قليلة استعداداً لاجتماعنا، ليخبرني خلال محادثتنا الأولى عن ريد جاكوار غاي، الذي سرق منه نسخاً قيمة من كتاب المورمون المقدّس، كذلك حدثني عن اليوغوسلافيين المخادعين، الذين ساعد مكتب التحقيقات الفيدرالي في تعقبهم في إحدى عطل نهاية الأسبوع. كما أشار إلى عصابة في محطة وقود إيرلندية، كانت تعقد صفقات وهمية بشكل دوري مع الباعة عبر الإنترنت، لتقوم بشحنها إلى محطة وقود في إيرلندا الشمالية. لكن هذه القصص برمتها حكاياتٌ أولية استهلالية لقصة كبرى وقعت أحداثها بعد مباشرةِ ساندرز العمل كمسؤول أمن متطوع في الجمعية الأميركية لباعة الكتب النادرة عام 1999. باختصار، اقتصرت مهمته حينها على تنبيه زملائه باعة الكتب، كلّما تناهى إلى سمعه هوية لص ما، بما يتيح لهم فرصة البحث عن كتبهم المفقودة. كان عمله في البداية محدوداً، حيث يتلقى رسالة بريد إلكتروني أو مكالمة هاتفية حول سرقة ما كل بضعة شهور، ليعيد توجيه المعلومات لزملائه على الفور. لكن حوادث النهب ازدادت مع مرور الوقت. لم يستهدف السارق جنساً محدّداً من الكتب، ولم يكن نمط السرقة متماثلاً، إلا أن عمليات السطو بمعظمها تمت عبر الاحتيال باستخدام بطاقات الائتمان. لم يعلم أحد شيئاً عن السارق، هل كان ينفذ جريمته وحيداً؟ أو أنهم عصابة مكونة من أفراد كثيرين؟ سمع ساندرز من أحد الباعة في خليج سان فرانسيسكو أنه فقد مذكرات عائدة للقرن التاسع عشر، بينما أفاد آخر من لوس أنجلوس في الأسبوع الذي يليه عن خسارة الطبعة الأولى من «حرب العوالم» للكاتب هـ. هـ. ويلز. هكذا وجد ساندرز نفسه يقضي زمناً يتضاءل أكثر فأكثر في متجره، ليسحله الوقت في محاولة معرفة ما يجري «بحق الجحيم».
حادث غريب للغاية أودى بساندرز للاندفاع صوب «معرض كاليفورنيا الدولي للآثار»، الذي عُقد في سان فرانسيسكو عام 2003، في «مركز كونكورس للمعارض»، داخل مبناه الباهت على هيئة مستودع، الواقع بجوار مركز التصميم الخاص بالمدينة، على بُعد بنايات عدة من سجن المقاطعة. بين معارض الثروات الوطنية وسجن المجرمين، يبدو أنه موقع مناسب للغاية. ضم معرض المدينة ــــ الأكبر في العالم ـــ نحو مئتين وخمسين بائعاً للكتب، إضافة إلى عشرة آلاف مشارك. إنه «المخزن الكبير الذي يدوم إلى الأبد»، على حد تعبير ساندرز.
في يوم الافتتاح، أصيب هواة الجمع وباعة الكتب بقلق الاحتمالات كعادتهم، في حين تجول ساندرز بخطى حثيثة حذرة عابراً أجنحة الكتب، حيث كان محاطاً ببعضٍ من أفضل العروض من أمثال: «استراتيجية السلام» بقلم جون ف. كينيدي، والطبعة الأولى من كتاب «المورمون». لكن عقله لم يكن منساقاً خلف الكتب على الإطلاق.
قبل عدة أيام من المعرض، بينما كان جالساً في مكتبه في مدينة سالت ليك، مطوّقاً بأكوام الكتب والوثائق المغبرة، تلقى ساندرز مكالمة هاتفية جاءته من أحد المحققين في سان خوسيه في كاليفورنيا. أخبره المحقق أنّ اللص الذي أمضى ساندرز ثلاث سنوات في محاولة تعقبه تم تحديد هويته (ليدرك ساندرز في الحال أن الفاعل كان سارقاً منفرداً، وليس عصابة). إنه المدعو جون جيلكي، الذي يقيم في سان فرانسيسكو. ثم تلقّى ساندرز قبل يومين من المعرض صورة فوتوغرافية لجيلكي. لطالما تخيّل شكل اللص فيما مضى، لكن هذا الرجل لا يشبه ما جال في ذهنه على الإطلاق.
«يمكنني إعلامك بأمر واحد» قال: «لا أجده مشابهاً لموريارتي»، مشيراً إلى الشخصية الخيالية التي أطلق عليها شارلوك هولمز «نابليون الجريمة».
لقد عكست الصورة رجلاً عادي المظهر في الثلاثينيات من عمره، ذا شعر داكن قصير بتسريحة جانبية، يرتدي سترة بلون أحمر تحت قميص ذي أزرار بيضاء، أما ملامحه فتشي بتعابير يائسة أكثر من كونها متوعدة.
كان كين لوبيز، صديق ساندرز وبائع كتب في ماساتشوستس، طويل القامة ذا شعر متدلٍّ حتى الكتف، يحمل علبة سجائر من نوع «كاميل» في جيب قميصه، الضحيةَ الأخيرة لجيلكي على حدّ علمهم. (لقد طلب منه الطبعة الأولى من «عناقيد الغضب» لجون شتاينبك). فكر ساندرز ولوبيز قبل افتتاح المعرض بفترة وجيزة، بتوزيع صورة جيلكي على جميع الوكلاء، أو القيام بطباعة ملصقات عنه لتُعلق على أبواب المعرض. لكن ساندرز أعاد النظر بالأمر، فقد يتم استدعاء ضحايا جيلكي جميعاً يوماً ما للتعرف إليه، الكثير منهم في الواقع، موجودون هنا في المعرض. لم يرغب ساندرز بالمخاطرة بإفشال العملية. كل ما يمكن فعله الآن البقاء متيقظاً، متسائلاً إن كان جيلكي وقحاً بما يكفي للتجرؤ على الحضور إلى المعرض: «أظن أنه سينجذب إلى هذا المعرض المتميز، كانجذاب الفراشة صوب اللهب، سيقصد المكان لسرقة الكتب».
فتنة الكتب
تابعت الطواف حول المعرض، بدا الباعة الذين قابلتهم أكثر حماساً بذكر الخبير الخاص ببرنامج «معرض التحف» مقارنة بالحديث عن آل باتشينو. لاحظت مع ذلك، أن كلّ رجل شاب يعبر بجواره يحلم بنجوميته السينمائية أيضاً. مع هذا، من المؤكّد أن آل باتشينو منسجم مع الحشود أفضل مني، أنا المرأة العابرة. لا يزال هواة جمع الكتب يشكلون نسبة عالية من الرجال الذين تجاوزوا الأربعين عاماً. بدا الكثير منهم علماء أو هيبيين مسنين، أو من مقتني الكتب المنفقين أموالهم لاهثين وراء شغفهم. راقبتُ أحدهم يركن سيارة حمراء اللون من نوع «بورش» محاولاً الحصول على إحدى نسخ الطبعة الأولى من كتاب «شكوى بورتنوي» لفيليب روث. يمكنك ملاحظة الزبائن مع أيٍّ من هذه الكتب العتيقة، حين يقومون بحملها نصف مفتوحة بكلتا أيديهم، في محاولة لتفادي تصدّع متن الكتاب، أو التسبب بالمزيد من الأذى من تمزق أو طيّ أو انسكابٍ للقهوة، مستعينين بأدلة وخرائط من أرض المعرض، متفحصين عبر نظاراتهم أركان الأجنحة، أملاً أن تقع أبصارهم على إحدى نسخ الطبعة الأولى من كتاب «هاري بوتر وحجر الفيلسوف» لجوان رولينغ مواري مثلاً، والتي طُبع منها ما لا يزيد عن خمس نسخ، لتباع بقيمة ثلاثين ألف دولار. أما أولئك الذين لا يحبذون الإسراف، فتراهم يطاردون الكتب الحاصلة على الجوائز، والمعروضة بأسعار معقولة، كالنسخة الأولى من رواية «المحبوبة» لتوني موريسون، والتي سُعّرت بمئةٍ وخمسةٍ وعشرين دولاراً، أو الكتب الأقل ثمناً، كالنسخة الأولى من رواية «الأرنب الثري» للكاتب جون أبدايك بقيمة خمسةٍ وأربعين دولاراً؛ تلقاهم هائمين بين الأجنحة يهجسون بمفاجأة سارة وبحلم المنقّب عن الكنز أن يتعثروا بكتاب ذي ندرة أو جمال أو تاريخ أو أصل عتيق، سيمسي أكثر إغراء من الحكاية المطبوعة بين دفتيه.
من الواضح أن فتنة أي كتاب في معرض كهذا، تتكئ بمعظمها إلى الإغراء العاطفي. لا بد أن هواة جمع الكتب يتذوقون الكتب بأعينهم، بأيديهم وأنوفهم. لمحتُ رجلاً إنكليزياً يضع فنجان قهوته على مسافة آمنة من المنضدة، قبل أن يستنشق نسخة من كتاب «مغامرات أليس في بلاد العجائب»، ليتهاوى بعدها في حفرة الأرنب الساحرة التي حفرها جون تينيل عميقاً بريشته فوق الورق. ظننتُ أنه يحب عبق الكتب القديمة، لكنني عرفتُ لاحقاً أن الاستنشاق ليس سوى إجراء عملي لتفحص الكتاب، فالعفن يمكن أن يدمر كتاباً، نفحة عميقة تكفي للإخبار عن خطر محدق من هذا النوع. أثناء التجول من جناح إلى جناح، عبر التنقل من كتاب إلى آخر، راودني الإغراء العاطفي ذاته، غمرتني النشوة مع تلمس حواف الصفحات الحادة، بالشعور الحار بفتنة الطراز، بأغلفة الكتان المشدودة، بجلد الخنزير، بأريج الورق العتيق. في أبحاثي السابقة عن المعرض، تعلمت أن العشق ليس للكتب النادرة فحسب، إنما لامتلاكها إلى الأبد، رغبةٌ بدأت قبل خمسة وعشرين قرناً ولا تزال على قيد الحياة حتى اليوم. إذ تم التهكم على يوريبيدس في عام أربعمئةٍ قبل الميلاد بسبب نهمه للكتب. بعد سنوات عدة، أشار شيشرون قائلاً: «أدخر دخلي الضئيل كله لإثراء مجموعتي».
إدغار آلان بو وتيمورلنك
لا تزال إحدى الحكايات عالقة في ذهني، قصة تعود ليوم ربيعي من عام 1988. في صباح ذلك اليوم، قام رجل من ولاية ماساتشوستس مهووس بجمع كتب عن التاريخ المحلي بالتفتيش داخل صندوق في مخزن أثري في نيو هامبشاير حين لفت انتباهه شيء ما. وجد أسفل النصوص المختصة بالأسمدة والآلات الزراعية كتيباً نحيلاً مُلّبساً بغلاف ورقي بلون الشاي، يحمل عنوان «تيمورلنك وقصائد أخرى»، لمؤلف لم يُذكر اسمه، لكن تم التعريف عنه ببساطة على أنه «من بوسطن». كان واثقاً إلى حدّ ما أنه وجد شيئاً استثنائياً، دفع للحصول عليه خمسة عشر دولاراً، ثم عاد إلى المنزل، حيث سيقضي تيمورلنك ليلة واحدة هناك. قام بعدها الرجل في اليوم التالي بالاتصال بشركة «سوثبي» التي أكدت له شكوكه بأنه حقق للتو أحد أكثر اكتشافات الكتب إثارة خلال السنوات الماضية. كان الكتيب مجرّد نسخة تتضمن النص الأول لإدغار آلان بو الذي كتبه في عمر الرابعة عشر فقط، وهو اكتشاف لا يمكن لأيّ باحث محظوظ تخيل حدوثه أو الاعتراف به. نُشر الكتيب الصغير ذو الأربعين صفحة في عام 1827 من قبل كالفين ف. س. توماس، وهو ناشر غير معروف نسبياً في بوسطن، متخصص في الملصقات الطبية، بسعر أصلي لم يتجاوز اثني عشر سنتاً. لكن هذه النسخة التي حافظت على جودتها لمدة مئة وواحد وستين عاماً، والتي ربما أضنى غيرها الرقود في صندوق علوي متربٍ لسنوات طوال، سيتم بيعها قريباً بمبلغ مئة وثمانية وتسعين ألف دولار. إن نسخة تيمورلنك التي لم تتسبب في أي ضجة حين تم نشرها للمرة الأولى، ولم تتم مراجعتها أو نقدها أبداً، لا علاقة لقيمتها المادية بأي جدارة أدبية، لكنها ارتبطت بشخص المؤلف. كل نسخة جديدة يتم العثور عليها، تمنح زيادة جديدة في السعر. أما عدد نسخ تيمورلنك التي تمت طباعتها عبر التاريخ، فتراوح بين خمسين إلى خمس مئة نسخة، أعلنت أربع عشرة نسخة منها عن نفسها حتى الآن، ومعظمها محفوظة في المؤسسات العامة.
ملحق كلمات