أمين معلوف بين ذاكرته وسيرة الأسماك الصغيرة/ محمد تركي الربيعو
لا يتوقفُ المثقفُ اللبناني/الفرنسي أمين معلوف عن إمتاعنا بما يكتبه، فالرجلُ في كلّ كتابٍ يؤكّد أنه من بقايا مثقّفي العصر، الذين ما يزالون يعيدون تقميش ورواية الأحداث، وذاكرة القرن العشرين، بأسلوبٍ يمزج بين الروائي والذاتي والمعرفي.. ففي كتبه يشعر القارئ بحيرةٍ، فليس هو نصٌّ في التاريخ أو في الفلسفة أو عن السيرة، بل هو كلّ ذلك، نصّ ربما بتنا بأمسِّ الحاجة إليه هذه الأيام في ظل بعض الكتابات التخصصيّة الجافة، التي لم تعد قادرة على رسم صورة كاملة عن ما حدث، أو ما نعيشه اليوم.
في كتابه الجديد، الذي اختار له عنوان «غرقُ الحضارات» والمُترجم حديثا للعربية، ترجمة نهلة بيضون، يحاولُ معلوف إكمال ما بدأه في مشروعه حول «الهويات القاتلة»، ولاحقا في كتابه «اختلال العالم» الذي صدر عام 2009 بنسخته العربية، إذ بدا يومها، وفقا للعديدين، متشائما حيال ما يعيشه العالم من تطورات تقنية ومالية، كانت تقذف بعوالم الثقافة والأيديولوجيا وأفكاره للخلف، لتتقدم فاسحة المجال لنوع آخر من العلاقات الاجتماعية، بدت أحيانا أكثر فردانية، وأحيانا أخرى أكثر ميلا لعصر القبائل (السنة والشيعة في العراق بعيد 2003). لم يكن معلوف يتصور ربما، أو ربما لم يخطر على باله يومها، أنّ هذا العالم سينفجر على مصراعيه في مدن المشرق، قبل أن تسقطَ، أو بالأحرى، تدمّر واحدة تلو الأخرى، أو لعلّه لم يتوقع أن يشهد أو يعيش ما عاشه صاحبه ليون الافريقي، الذي نقل لنا المشهد الأخير الذي سبق سقوط غرناطة. بيد أنّه هذه المرة وعوضا عن الاستعانة برحالة آخر، أو بائع كتب كما فعل الروائي العراقي سعد رحيم، ليرسم لنا الأحداث الأخيرة، قرر امتطاء جواد ليون، ليعود بنا إلى ذاكرته وطفولته، علّه يستطيعُ من خلالها تفسير أسباب سقوط مدنٍ مثل بغداد، وطرابلس، والقاهرة ودمشق وغيرها.
إذن فكتابه الجديد، هو أقرب ما يكون لحكاية الشاب معلوف، الذي وُلِد في عالمٍ عربي كوزموبوليتاني، قبل أن تأتي رياح الأيديولوجيا وزعماء الطوائف اللبنانية، ولاحقا الثورات المحافظة في ثمانينيات القرن العشرين، لتحوّله إلى عالمٍ ضيق، أو بالأحرى إلى مزرعةٍ للأسماك، كما وصفها أحد أصدقائه المؤرخين، حيث لكلّ سمكة صغيرة سمكة أصغر منها، تقوم بابتلاعها، ولعلّ هذا ما بات عليه واقع الشرق وهوياته وحروبه التي لا تتوقف.
فراديسٌ ضائعة
وكما ذكرنا، يحاولُ معلوف بأسلوبه الشيّق في الكتابة، النظرَ في أسباب ما آلت إليه الأوضاع في عالمنا، لكن من خلال تقنية أو لعبة سرد ذكرياته. هنا تغدو الذاكرة أو السيرة الذاتية ملعبا آخر لكتابة تاريخ عالمي للأفكار في النصف الثاني للقرن العشرين. أوليس التاريخ الجديد كما يراه المؤرخ الفرنسي بيير نورا قد تطوّر في الغالب من خلال التذكّر.
سيروي لنا معلوف عن قصة ولادته، «فقد أبصرت النور في 25 فبراير/شباط 1949..» بعد أسبوعين تقريبا من اغتيال حسن البنا مؤسّس حركة الإخوان المسلمين، على يد عنصرٍ تابعٍ لأحد أقسام الشرطة. كانت المواجهةُ بين التنظيم الإسلامي وسلطات القاهرة مستمرة منذ عشرين عاما. ورغم أنه ولِد في بيروت، إلا أنّ عائلة والدته؛ كآلاف العائلات اللبنانية؛ كانت تعيش في مصر. فقد تزوّج جدّاه من أمه في مدينة طنطا نهاية الحرب العالمية الأولى، قبل أن ينتقلا للعيش في هليوبوليس، المدينة الجديدة التي أُنشِئت جوار القاهرة، بمبادرة من أحد الصناعيين البلجيكيين البارون أمبان. بدا وضع العائلات اللبنانية جيدا، فغالبيتهم استطاعوا بناء قصورٍ ومصانع ومحلات، ممن سافروا خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ومنتصف القرن العشرين. فقد مثّلت «أم الدنيا» لهم آنذاك خيارا أفضل من خيار الهروب إلى البرازيل أو أمريكا، التي هاجر إليها قسمٌ كبير من اللبنانيين في فترة القرن التاسع عشر.
في الخمسينيات، أخذت القاهرة بفنّانيها ومغنّيها، وبالأخص صوت أم كلثوم، تتجاوز حدودَ البلاد، في المقابل كان طه حسين، الشاب الكفيف، يدعو الباحثين العرب إلى إعادة دراسة التاريخ بأدواتٍ علميةٍ جديدةٍ.. كان من المتوقّع أن يعيش معلوف ويترعرع في عالم الفردوس هذا، لكن صدف التاريخ ربما، وأسراره التي عادة ما تفاجئنا، ستطيح بالملك فاروق، الذي لم يكن آخر ملوك مصر وحسب، بل مثّل رحيله نهاية مرحلة القاهرة أو الإسكندرية المتعدّدة ثقافيا وعرقيا.. إذ سيقودُ «الضباطُ الأحرارُ» معركة ضارية ضد المجتمع الكوزموبوليتاني الذي عرفته القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين.. لعلّ في كلام معلوف ما يذكّرنا بكتاب المؤرخ الكوسوفي السوري محمد الأرناؤوط حول ألبان مصر، وكيف كان قدومُ آخر رجال باشا المتحوّلين ضده، نهاية لوجود الطريقة البكتاشية (الذي مثلت آنذاك مركز الألبان في العالم) لتكتب آخر كلمات في حياة الجالية التي حكمت القاهرة لقرون طويلة. بدت مصر المتنوعة وكأنها تموت آنذاك، وتشهد نزوحا جماعيا لجميع الطوائف التي قيل عنها أنها متمصرة. ورغم أنّ أسرته ستضطر إلى بيع ممتلكاتها بأبخس الأثمان لضابطٍ مصري، سيبدو معلوف لاحقا أقلّ حدة حيال حكمه على رجل مصر العظيم، فالرجل (عبد الناصر) جاء في عصر التحرّر الوطني والنضال ضد الاستعمار، أسلوب عيش ارتبط به، ولم يكن الوقت يسمح بالتفكير خارجه ربما.
في بيروت الستينيات، كانت عينا معلوف تتفتحان. أخذت هذه المدينة تحلّ محلّ القاهرة وصحفها، في حين كانت التمزّقات السياسة والانقلابات لا تهدأ في سوريا، وفي كل هزّة يمر بها، كان المهزومون يسلكون طريق المنفى إلى لبنان، من ضباط، ومسرحيين، وسياسيين، وصناعيين، ومفكّرين وفنانين. مما يذكره عن تلك الفترة، أنّ أسرته احتفلت عند إعلان انقلاب 1961 على الوحدة، فقسم كبير من اللبنانيين كان يخشى الوحدة. سينضم في عمر الثامنة عشرة والنصف تقريبا للحركة الشيوعية، قبل أن يتركها بعدها بعام تقريبا، بعد أن أدرك «أن طبعه لا يمكن أن يتحوّل إلى طبع ناشطٍ أو تابعٍ لعقيدة، فغادر بهدوء، بلا ضجيج، ولا ندم، أو مرارة».
عودة إلى عبد الناصر
سيبقى هذا الزعيم العربي مصدرَ حيرةٍ لصاحبنا ليون اللبناني، فرغم كل ملاحظاته، لا يخفي حسرته على هذا الرجل. ففي حرب 67، كان معلوف كغيره من غالبية العرب، يجلس أمام المذياع لسماع أخبار الطائرات الإسرائيلية التي تتساقط، لكن عبد الناصر سيُهزم «شعرت بنفسي حينذاك يتيما». ستشهد الساحة العربية غداة هذه النكسة، ازدهارا ثقافيا وفكريا منقطع النظير، بدت بيروت مركزه، والمساهمون فيه يأتون من أنحاء العالم العربي. ما يذكره عن تلك الأيام الضجة التي أثارتها مسرحية الراحل سعد الله ونوس (حفلة سمر من أجل 5 حزيران)..لكن طريق نقد الهزيمة لن يستمر، كما كان مأمولا منه، فبدلا من اعتماده لتأسيس بداية جديدة، أخذ العرب يقتنعون بأنّ سائر العالم متحالف ضدّهم، حتى أنّ «متلازمة المهزوم الأبدي» باتت تحوم حول عقولنا، لينتهي الأمر بأن نكره البشرية جمعاء.
في بداية السبعينيات، سيبدأ معلوف عمله صحافيا في جريدة «النهار» اللبنانية، وهي الفترة ذاتها، التي كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد نقلت فيها نشاطاتها لمدينة بيروت. وفي أروقة الصحيفة، سيتاح للشاب الصغير فرص اللقاء بشخصيات دولية عربية وأوروبية، وبمراسلين لصحيفة «الغارديان» و«اللوموند»؛ سيلفت نظره آنذاك كمال ناصر، المتحدّث الرسمي باسم منظمة التحرير الفلسطينية، الذي وُلِد في الضفة الغربية لأسرة بروتستانتية. كان معلوف يستمع ويستمتع بكلماته، لكن لم يفكر في يوم ما بتدوينها، فكانت مهمته في الصحيفة آنذاك تقوم على متابعة الأخبار العالمية والانقلابات في أمريكا الجنوبية وافريقيا، سيُدرك معلوف لاحقا كم ساهم هذا الدور ووسّع من رؤيته للعالم والأحداث.
في أروقة النهار يكشف لنا عن حوادث قد تبدو مفاجئة لقرائه، يخبرنا مثلا عن ليلة 9 إبريل/نيسان 1973، فبينما يهمُّ بتبديل ثيابه بعد سهرة مع الأصدقاء، وإذ بالأخبار تتحدث عن قيام كتيبة كوماندوس إسرائيلية باغتيال عدد من القادة الفلسطينيين، وخطف كمال ناصر.. هرع إلى شقّة ناصر برفقة أحد مصوّري النهار «كان بابُ الشقة مفتوحا على مصراعيه.. دخلت بحذر، وفجأة تبيّنت، تحت طاولة كبيرة هيئة جسدٍ، لم يلمحه على ما يبدو الأشخاص الذين سبقونا.. قرّبت المصباح، كان هو، كمال ناصر، ممددا على ظهره وتحت شفته السفلى أثر رصاصة..». لدى عودته إلى الصحيفة سيكتب يومها أنّ ناصر لم يُختطف بل قُتِل. الأهم من هذا الحدث ربما، أنّ معلوف كان أحد الشهود على الحادث، الذي أشعل شرارة الحرب الأهلية في لبنان، فبينما هو جالس في منزله قامت سيارتان بقتل عدد من الفلسطينيين؛ شاهد معلوف التاريخ وهو يتشكّل أمامه، خلافا لما تعوّده المؤرخون والروائيون الذين عادة ما يزورون الأماكن لاحقا لإعادة كتابة الأحداث؛ وقد بدت صور الجثث الهامدة أمامه، وكأنها تضعه وجها لوجه أمام يوم القيامة في لبنان. في عام 1976 سيغادر معلوف لبنان على متن باخرة إلى فرنسا، فجميع أحلام مشرقه كانت قد ماتت أو تحتضر..
سنةُ الانقلاب الكبير
بعد ثلاث سنوات تقريبا من رحيله، ستحمله أقدار التاريخ على العودة، ولكن هذه المرة على متن الطائرة ذاتها التي نقلت الخميني من فرنسا إلى طهران سنة 1979.. ينقل لنا ما شاهده آنذاك، ففي المطار بدا استقبال الزعيم الديني فاترا، بيد أنّ مدّا بشريا هائلا كان ينتظره في الشوارع.. سيختار يومها الخميني الإقامة في مدرسة عمومية، قبل أن يظهر بعدها بأيام جالسا على أريكة، وعلى يساره مهدي بازركان، مرتديا طقما فاتحا؛ بدا التناقض له مذهلا بين جسامة الحدث التاريخي الذي يشاهده، وبساطة المكان الذي يحتضنه، لم يكن هذا الانقلاب يحدثُ في طهران وحسب، وإنّما سنعيشه أيضا في بريطانيا مع إطلاقِ رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر لثورتها المحافظة في شهر مايو/أيار 1979. ورغم الكم الشاسع من الاختلاف، غير أن الحدثين كانا يتشابهان، إذ بدا أن التيار المحافظ يعلن نفسه ثوريا، أما دعاة «التقدمية» واليساريون فلم يعد هدفهم سوى الحفاظ على المكتسبات. لم يكن مجيء السيدة ثاتشر ليكتسب الأهمية نفسها في سياق حركة متجذرة وواسعة، لولا أنها لم تنتقل إلى الولايات المتحدة ثم إلى سائر العالم، إذ سيتبنّى زعماء كثيرون من اليمين واليسار على السواء تعاليم الثورة المحافظة الأنكلوسكسونية، التي تقوم على فكرة الحدّ من تدخل الحكومة في الحياة الاقتصادية، وتقليص النفقات الاجتماعية، وزيادة إطلاق يد أصحاب المشاريع.
في العام ذاته أيضا، أُعدِم شنقا الرئيس الباكستاني ذو الفقار علي بوتو، على يد العسكريين الذين كانوا يتهمونه بمناصرة الاشتراكية والعلمانية، كما قررت الولايات المتحدة تسليح المجاهدين الإسلاميين الأفغان سرا. وبالعودة إلى نتائج الثورة الإسلامية، يرى معلوف أنّ هذا الحدث مثّل بداية لاستيقاظ الأحقاد الطائفية، وهذا ما انعكس على بلدٍ صغيرٍ مثل لبنان، وبالأخص على الطائفة الشيعية وعلاقتها بالسنة، ففي فترة شبابه لم يكن واردا أن نعيش هذا التوتر، فاللبنانيون الشيعة كانوا يسكنون في مناطق فقيرة، وكان ذلك يحثهم بالدرجة الأولى على الانخراط بأعداد كبيرة في الأحزاب اليسارية إلى جانب العمال الآخرين، لا على المطالبة بحقوقهم باسم طائفتهم. ربما في كلامه ما يذكّرنا ببعض القراءات التي أخذت تميّز بين وجود الطوائف، والطائفية التي أخذت تزدهر في مدننا جراء عوامل وأحداث سياسية.
اليوم، وبعد مضي عقودٍ، سيبقى معلوف يعتقد أنّ الجنوح الذي تشهده البشرية في أيامنا الراهنة قد ولّده التغيير الذي أحدثته الثورات المحافظة، سواء على مستوى رؤيتها للسلطات العامة، أو علاقة الهويات ببعضها، قبل أن يمرّ الطوفان على مدننا، لتسبح الأسماك الصغيرة، وتأكل بعضها بعضا إلى ما لا نهاية.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي
————————-
«غرق الحضارات» أم غرق أمين معلوف؟/ مصطفى شلش
عن «دار الفارابي»، صدرت النسخة العربية (ترجمة نهلة بيضون) من كتاب «غرق الحضارات» للكاتب والروائي اللبناني أمين معلوف بعدما نشرت النسخة الفرنسية مطلع ربيع 2019 عن «دار غراسي» (باريس). يحاول أمين معلوف في مؤلّفه «غرق الحضارات» أن يفكّك الأوضاع الراهنة في العالم الغربي تحديداً، كما يعرّج على دراسة الأوضاع في الوطن العربي، كعرّاف أو ناظر إلى بلّورة سحرية ليستقرئ التاريخ العربي بوصفه درباً من الظلامية. يشير معلوف إلى الظلمات التي اكتسحت العالم العربي بدءاً من بلاده لبنان ومصر والعراق وسوريا، لاجئاً إلى الطريق السهل في التفسير ألا وهو أن العالم العربي اختار «الطريق الخطأ»، بسبب إخلالات حركة النهضة العربية التي بدأت منتصف القرن التاسع عشر. وهو يعتبر أنّ المجتمعات العربية لم تتمكن من الاستجابة الفعلية لدعوات الإصلاح والتحديث، بل ظلّت مشدودة إلى الماضي، رافضة اللحاق بركب الحضارة الغربية!
رفض الشعوب العربية «للتقدم» جاء في نظر معلوف إبان نيل البلدان العربية استقلالها، وخلاصها من الهيمنة الاستعمارية، واختيارها أنظمة حكم متسلّطة وفاسدة حكمت الشعوب بالحديد والنار، على حد تعبيره. هذا ما ضاعف من تخلف الوطن العربي وأزماته، بالإضافة إلى السماح للحركات الأصولية المتطرفة باكتساح المجتمعات العربية، موهمةً إياها بأنها قادرة على ضمان العيش الكريم لها في الحياة الدنيا، والجنة في الآخرة.
وكعادة المثقف المُحب للكليشيهات، لم ينسَ أمين معلوف أن يحمّل النظام الناصري وجمال عبد الناصر مسؤولية ما حدث في العالم العربي من كوارث وأزمات. يبدأ أولاً بالاستخفاف بالجماهير ـــ فهي قطيع ما دامت ضد رغبة المثقف العربي ــــ حيث استطاع جمال عبد الناصر خداعها وكسب ثقتها من المحيط إلى الخليج، رافعاً شعار الوحدة العربية. لكنه لم يكن واعياً إلى تحديات المرحلة، وجاهلاً بالحلول التي لم يستطع أن يقدّم أيّاً منها. وعوض أن يقوم بالإصلاحات الضرورية واللازمة، قام عبدالناصر بالآتي: «تدمير الاقتصاد المصري، وأشاع المشاعر الشوفينية، واضطهد الأقليات التي كانت ضامنة لنجاح التعايش الثقافي والحضاري والديني. وفي النهاية، قاد بلاده والعالم العربي بأسره إلى هزيمة حرب67، التي لا تزال جراحها مفتوحة إلى حدّ هذه الساعة». الفقرة الأخيرة التي يكيل معلوف فيها الاتهامات لعبد الناصر، تذكرنا بمشهد من مسرحية «الزعيم» لعادل إمام، عندما اعترف بسيل من الجرائم، وأنهاها بأنه أيضاً سبب خروج السعودية من كأس العالم. وأكمل لمن يستجوبه: «أي قضية عندكم مستعد أعترف بيها». هكذا تعامل أمين معلوف مع ما أسماه «غرق الحضارة» في الوطن العربي، رغم أن مقدّمي الكتاب بطبعته الفرنسية وصفوا معلوف بأنه «دارس بدقة وواقعية بل إنه الملاحظ المتشبث بعقلانيته في زمن الجنون، والعنف، والإرهاب الأعمى، والمخاطر الجسيمة التي تهدد البشرية، سواء كانت اقتصادية، أم سياسية، أو ثقافية وحضارية». بخلاف ذلك، فإن قارئ الكتاب وطرح أمين معلوف، يجده قد استبعد كل الأبعاد التاريخية والاقتصادية والاجتماعية، وتمسك بالسردية التقليدية لليبراليين التي تدّعي أن التطور ومواكبة العصر، تتمحور حول التبعية للغرب، وبالسير على الطريق الغربي، شبراً بشبر وذراعاً بذراع. لكن من الواضح أن قضية التخلف العربي لا تمثل لمعلوف إلّا تأخراً تاريخياً ونقصاً كمياً في الموارد البشرية والأفكار سيعالجه الزمن، وسيساعدنا كرم الغرب في مدّنا باللازم للتخلص من تأخرنا. وبرغم أن ثنائية «التخلف/ التقدم» قد شكّلت السؤال التاريخي الأساس للعرب منذ قرن على الأقل حسب الباحث والأكاديمي علي القادري في كتابه «تفكيك الاشتراكية العربية» (2016)، إلا أننا نواجه بين حين وآخر مثقفين أكثر أصولية وسلفية في تصوراتهم عن العالم، خصوصاً من يظنون أنهم يقدمون إجابات للأسئلة المحورية تاريخياً. بل الأخطر من هذا أن صياغات معلوف للتاريخ العربي ما هي إلا اتهامات تفتقر إلى أي دليل، لكنها تتوافق مع أهواء ومزاج النخب الغربية. لذا رغم الثناء والمديح لأفكارهم النقدية في الأوساط الغربية والخليجية، فإنها لم تخرج تقريباً عن اجترار أفكار صراع الحضارات ونهاية التاريخ ومخلّفات الفكر الإمبراطوري الأميركي لفرانسيس فوكوياما (1952) وصامويل هنتنغتون (1927-2008). تحدّث أمين معلوف عن تدمير عبد الناصر للاقتصاد المصري بل العربي عموماً. لكن حين نقرأ ما يُورده علي القادري في كتابه «تفكيك الاشتراكية العربية» (ترجمة الباحث مجدي عبدالهادي) من أرقام مُختارة على سبيل المقارنة بين المرحلتين الأساسيتين في التاريخ العربي الحديث وهما: مرحلة الاشتراكية العربية (1960-1979)، ومرحلة الليبرالية الانفتاحية (1980-2011)، وخصوصاً مصر وسوريا والعراق ــ وهي دول تعرضت بشكل مباشر لآثار الحقبة الناصرية ـــ سنجد أن هذه الأرقام ذات اتجاه وعنوان واحد نفهمه ضمناً خلال الفترتين، هو «التراجع الكبير». فقد تراجع معدّل نمو الناتج المحلي الإجمالي في سوريا والعراق ومصر من 7.1% و10% و5.5% إلى 4 % و4.9% و4.3% على التوالي، ومعه تراجع معدل نمو حصة الفرد من ذلك الناتج في البلدان الثلاثة من 3.8 % و6.8% و3.5% إلى 1.2% و2.1% و2.3% على التوالي كذلك، وتراجع معدل نمو إنتاجية العامل من 4.5% و8.6% و3.3% إلى 0.5% و1.2% و2.2%، فيما زادت متوسطات معدلات التضخم من حوالى 5% للدول الثلاث إلى 13% في مصر و26% في العراق و15% في سوريا. وارتفعت معدلات البطالة من 4.2% و5.2% إلى 10.9% و13.2% في سوريا ومصر على التوالي. كما ارتفع متوسط خدمة الدين العام كنسبة من الدخل القومي من 2% و3% إلى 4% لكلٍّ من البلدين؛ بما يظهر تفاوتاً مُعتبراً ــ وهائلاً أحياناً ـــ في المؤشرات الأساسية كافة لصالح فترة الاشتراكية العربية (الحقبة الناصرية المُهاجمَة) في الأداء الاقتصادي الكلي، خلافاً للأساطير الشائعة التي تأثر بها أمين معلوف.
أما عن صعود التيارات السلفية والوهابية التي لا تختلف في قراءتها للواقع العربي عن أمين معلوف، لكن كلّ من خندقه الحتمي، فإن الفريق الأوّل يتعلّق بالجنّة السماوية، والفريق الليبرالي/ أو المتغرب الثاني يتعلّق بالفردوس الغربي. والمضحك أن كلا الطرفين ينتقدان الاشتراكية لجمودها! إلا أنهما يرفضان بناء نظرة جدلية اجتماعية واقتصادية حتى في قراءة التاريخ، كما يرفضان تقديم أيّ تفهم للظرف السياسي الدولي الذي أعقب حرب 1973 عندما قفز السادات إلى أحضان أميركا التي بلعت المنطقة كلها عبر منظمات أممية ودولية كصندوق النقد والبنك الدولي لتحاصر البلدان العربية، خصوصاً تلك البلدان التي وضعها معلوف محل تحليله كمصر وسوريا والعراق… فارضة برامج شديدة لإعادة الهيكلة النيوليبرالية، مُحيلةً كل الأسواق العربية إلى مجرّد وجهات لعرض منتجاتها ومفرغةً المجتمعات العربية من رأس مالها الأجنبي وحتى رأس مالها الفكري. وقد استعانت من أجل امتصاص رأس المال النقدي بالشركات العابرة للقارات وبحالة السيولة تحت غطاء «العولمة». كما امتصت رأس المال الفكري عبر القوى الدينية، وخصوصاً «الإسلام السياسي» فدعمته بأموال الخليج، وفتحت معه اتصالات من قنوات خلفية بوصفه الوريث الشرعي للأنظمة التي تتهاوى في المنطقة وخصوصاً بعد انهيار السوفييت لتضمن القضاء على أي فكر يساري أو تقدمي أو وطني، فلم يعد هناك شيوعيون.
أخيراً، يمكن التطرق إلى نقد وتفكيك كل نقطة في كتاب أمين معلوف «غرق الحضارات» المكتوب من برج باريسي، لكن نكتفي بهاتين النبذتين لنشير إلى أننا في أزمة ثقافية حادة. إذ لم يعد مثقفونا العرب يقرأون ولو بشكل بسيط واقعنا وتاريخنا قبل إطلاق كتبهم ودراساتهم «العبقرية»!